بقلم أسماء عبد العزيز
"الشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه .. هو الخوف نفسه"
فرانكلين روزفلت، 1933
بحسب الأسطورة الإغريقية القديمة "صندوق باندورا" Pandor’s Box، وهي جرّة بها كل شرور العالم (جشع، غرور، حسد، أمراض، وهن، وأوبئة، ...) أعطيت الآنية الجميلة إلى باندورا مع تعليمات بأن لاتقوم بفتحها مطلقًا، وتحت أي ظرف، وبدافع من الفضول والغرور البشري فتحت باندورا الصندوق، فانطلقت منها كل شرور العالم لتعم أنحاء الأرض، فسارعت بإغلاقه لكن بعد فوات الآوان[1]، تعني الأسطورة أن تقوم بعمل يبدو لك ضئيلاً وغير ضار، لكنه ما يلبث أن يأتي بعواقب وخيمة، وخارجة عن السيطرة، بالطبع أشير هنا إلى فيروس كورونا، وما ارتبط به من سلوكيات بشرية متغيرة، وأنماط غذائية شاذة، وتغييرات بيئية، وآليات صحية غير ملائمة، سهّلت تحويل فيروسات غامضة تصيب الحيوانات والطيور، إلى تهديدات وجودية للبشرية أجمع.
حقيقةً عانت البشرية من إرث تاريخي للأوبئة، نذكر وباء الطاعون الذي تفشى في القرن الرابع عشر والسادس عشر، وتفشي وباء الكوليرا في الشرق الأوسط والهند وأوروبا الذي استمر من عام (1881) إلى (1896)، كذلك جائحة الأنفلونزا في أوائل القرن العشرين عامي (1917-1918)، حيث كان أكثر الأحداث دموية في تاريخ البشرية، قضى على نحو (50) مليون شخص أو أكثر حول العالم، (وهو ما يعادل 200 مليون شخص من سكان العالم الآن)[2]، وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، ظهر وباء نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) بعدوى فيروسية من القرود، وظهر كذلك وباء الإيبولا ما بين عامي (2014-2016)، في غرب إفريقيا ومازال أصل العدوى بها غير مؤكدة حتى الآن[3].
وعلى مدى قرون عديدة، ارتبطت العلاقة بين الأوبئة والبشر بالخوف والذعر، كما نرى اليوم مع جائحة فيروس كورونا، الذي ظهر في الصين ديسمبر (2019)، لينتشر حول العالم في غضون أسابيع قليلة لاحقة، تم تسمية الفيروس بكورونا أو الاسم العلمي [4]COVI-19، وفي (11) مارس أعلنت منظمة الصحة العالمية (WHO) الفيروس كوباء عالمي وحالة طارئة للصحة العالمية[5]، وفي مصر ظهرت أول حالة في (14) فبراير2020[6]، ومع الوقت بدا أن الحالات تتضاعف، وهو ما دفع الحكومة المصرية إلى استراتيجية "المسافة الاجتماعية الآمنة"، ثم تطبيق حظر التجوال في (24) مارس 2020، وهو ما قد يضمن على المدى الزمني المحدد "تسطيح المنحنى Flatten The Curve"، الخاص بأعداد الإصابات، وبالتالي تخفيف العبء على مرافق الصحة العامة[7].
خلق تزايد أعداد الإصابات الخوف من تفشي الفيروس، وأصبح الخوف يتصدر المشهد؛ فالخوف في زمن الأوبئة هو الشعور المسيطر على كل فرد، الخوف من العدوى، الخوف من التحية الجسدية والاتصال البشري، الخوف من الآخرين وعلى الآخرين، الخوف من الموت، الخوف من الملامح الآسيوية، الخوف من الجهل، الخوف من العزلة، الخوف من انهيار أنظمة الرعاية الصحية، الخوف من الأشياء والأسطح، الخوف من وصمة العار للأوبئة، الخوف من التلوث، والخوف من المجهول.
الكورونا وسيولة الخوف:
منذ بدء الأزمة، ملازمة المنزل هو الإجراء الآمن، وفي ظل الحجر المنزلي لجأ الناس إلى مواقع التواصل الاجتماعي المصدر الأكثر سهولة للوصول إلى المعلومات، كملاذ آمن للهروب من مخاوفهم المتعلقة بالوباء، إلاّ أنها ما لبثت أن أحاطتهم بحلقة من الخوف ذي وجهين، مع صور ومقاطع فيديو للمرضى والضحايا، وأخبار حزينة، ومعلومات مضللة، وما تبعها من تداعيات نفسية، ومضاعفة الإحساس بأن الوباء يخلق تهديدًا وجوديًا للجنس البشري.[8]
خلق الوباء معه حالة من الخوف السائل، فلم يعد يقتصر الأمر على أنه حالة بيولوجية صحية، بل تعدت لتكون ظاهرة ثقافية أو روحية، أو كتجربة إنسانية فريدة من نوعها، سوف يتحدث عنها الجميع لاحقًا، لمدة زمنية ليست بالقصيرة-على ما اعتقد-، وبتعريف (زيجموند باومان) للخوف السائل، في كتابه المعنون بنفس الاسم، هي الحالة التي تتحول فيها المخاوف إلى ما يشبه الحالة السائلة، بل أقرب إلى الحالة الغازية، حيث يتسرب الخوف، ويسيل وينتشر حولنا في كل مكان[9]، وعن تحليله للخوف يتساءل باومان: "كيف استطاعت الحداثة توزيع المخاوف الكبرى على تفاصيل الحياة اليومية؟، كيف يمكننا التعايش مع كل هذا الشر سوى بإنكار وجوده، أو إنكار مسؤوليتنا عنه؟ فالخوف يمحو المعالم الأساسية للحياة المتحضرة في لحظة، وفي ظل كل هذا الخوف السائل من كل شيء، والذي يستبيح كل شيء، يشعر الفرد بأن مواجهة التهديدات والمخاطر مهمته هو"[10]، حيث تفوق الخوف على علاقتنا بكل ما يحيط بنا، بالأشياء والأشخاص، وفنّد وهم الهيمنة والسيطرة وإخضاع الماديات، ليتسرب إلى حالة من الضبابية واللايقين نحو كل شيء وأي شيء، وهو في حد ذاته تطبيق حيّ لأفكار (باومان)، فعلى حد تعبيره "سيولة الخوف تعني أنه لا يمكن الشعور بالأمان طوال الوقت، حتى مع أقرب الناس إليك"[11].
وانسحب الخوف على كل مايحيط بنا مادّيًا كان أو معنويًا، انسحب على علاقتنا بالأشياء والأسطح المحيطة، وجعلنا نتصرف معها بطريقة مغايرة، بل ننظر إليها بطريقة مغايرة، ليس كما اعتدنا على النظر إليها من قبل، تسرب نحو الأشخاص المحيطين، نحو العائدين من السفر، نحو الملامح الآسيوية، نحو الماديات، كأكياس البقالة والنفايات، والارتياب من التعامل مع الأوراق النقدية، أو لمس مقابض أبواب المنزل والسيارة والمكتب، أو شاشات التلفاز، وأصبح كل ما اعتاد عليه إنسان الحداثة يظن أنه تحت سيطرته الكاملة، يتسرب ويسيل منه شيئًا فشيئًا، وهو ما يعكس مفهوم سيولة الخوف.
إدارة الخوف في ظل أزمة كورونا:
"إدارة الخوف" هو مبدأ موجود لدى جميع الكائنات الحية، وهو مبدأ التنظيم الذاتي، ينظر إليه كمورد لـ "تصحيح المسار" وتوحيد العالم من خلاله[12]، ومع الاستكانة نحو وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة في أوقات حظر التجوال كبديل للتواصل الاجتماعي المفقود واقعيًا، انغمس الأفراد داخل بيانات ومعلومات لا حصر لها عن الفيروس، ليجد الفرد نفسه في حلقة مفرغة لانهائية للهروب من الخوف إلى الخوف، مع إعادة تدوير الخوف بأشكال أخرى.
في البيئة الافتراضية، ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في اختلال إدارة الخوف، مما أدى إلى استجابات "غير اعتيادية"، والترويج لردود أفعال شاذة، والتأثير السلبي على الصحة العقلية؛ فمع التركيز على غسل اليدين في النصائح الصحية المتعلقة بفيروس كورونا على وسائل التواصل الاجتماعي، جعل مصابي الوسواس القهرى يفرطون في الإجراءات الصحية -حيث إن فرط غسل اليدين من أكثر أعراض الوسواس القهري شيوعًا-، مما أدى إلى خلل وظيفي لديهم منذ بداية الأزمة، دعت معه الحاجة لإخضاعهم لجلسات العلاج النفسي، ونصحهم الأطباء على عدم البحث أو التعرض لأية رسائل خاصة بالفيروس على الإنترنت[13].
وبالنظر إلى تاريخ البشرية مع الأوبئة، فإن ردّ الفعل المفرط أمر محتوم في بدايته؛ فالبشر مشبعون بالخوف وفي صراع دائم معه، ومع تعرض البشر لموجات متتالية وهزات وجودية، وبتعبئة مستمرة من وسائل التواصل الاجتماعي، لايتم تداول المبادرات الحقيقية الداعمة، بنفس وتيرة تداول الأحداث الغريبة والمقلقة والشاذة؛ لأنه ببساطة يعكس سياسة خوارزميات المنصة، حيث تقف الخوارزميات كقوة مرعبة خلف عالم السوشيال ميديا، الذي نغرق فيه، "فالمشكلة ليست في المحتوى والأخبار المزيفة، بل في الخوارزميات السيئة"[14]، وهو ما ينتج الخوف ذي الوجهين.
في سياق ذلك، ذكرت التقارير القصصية الإخبارية الخاصة بأزمة كورونا، حشدا لممارسات "غير اعتيادية" كمثال على اختلال إدارة الخوف من العدوى، ورد في تقرير موقع جريدة BBC الإخباري ومواقع أخرى، في (11) أبريل 2020، احتجاج الأهالى بالدقهلية على دفن طبيبة مصرية توفت بسبب الفيروس، بجانب الإبعاد القسري للأطباء والمرضي، كما ذكرت تقارير إخبارية في (9) أبريل 2020، تعرض طبيبة مصرية للتنمر والاعتداء ومحاولات الطرد من منزلها، بسبب تخوف جيرانها بأن تكون سببا لنقل العدوى إليهم نظرًا لطبيعة مهنتها كطبيبة، يتسبب هذا الاختلال في تدابير حماية قد تخرج عن السيطرة، وهو ما ينسحب على مقولة فيكتور فرانكل في كتابه الإنسان يبحث عن معنى: "رد الفعل غير السوي، إزاء موقف غير سوي، هو استجابة سوية"[15]، فاعتلال إدارة الخوف تؤدي إلى العنف -وهو في حدّ ذاته أكثر خطورة من الفيروس ذاته-الذي يجرد الأفراد من ضمائرهم الأخلاقية، بل يصبح بمثابة الصورة الباهتة للإرهاب، مما يبدد المسافة الآمنة بين طبيعة البشر الأخلاقية وطبيعتهم الوحشية الباردة في لحظات.
خلاصة القول، من المهم كسر حلقة الخوف المحيطة، من خلال الممارسات والانشغالات اليومية مع أفراد الأسرة كممارسة القراءة أو اللعب، أو حتى تبادل الأحاديث، وتطويع النفس على الشعور المشروع بالخوف دون ارتياب مبالغ، والبحث عن بدائل أخرى، قد تكون المأوى الآمن الذي يمكن أن نلجأ إليه بعيدًا عن الانغماس الكلي داخل السوشيال ميديا، وتحقيق مشاعر الطمأنينة والأمان.
حقيقةً ليس من الإنصاف الادّعاء الكامل بأن البحث عن البدائل هو الحل، وليس من الأمانة الظهور بمظهر الواعظ، وإملاء ممارسات بعينها على أنها الخلاص من الخوف ذي الوجهين، فما أسهل الكلام وما أصعب الفعل!
لكن الثابت أن شعور الخوف السّائل موجود، حتى لو أحاطت البشرية نفسها بأسلاك شائكة، فقط محاولة لتحقيق التوازن بين الخوف والأمان.
[1] Morens, David M., Peter Daszak, and Jeffery K. Taubenberger. "Escaping pandora’s box—another novel coronavirus." New England Journal of Medicine (2020), p: 1293
[2] I bid, p: 1293
[3] Fisher, R. Michael. "Coronavirus and Marianne Williamson: Teaching for Fear Management Education." (2020), p: 4
[4] I bid, p: 4
[5] Morens, David M., Peter Daszak, and Jeffery K. Taubenberger, Op Cit, p: 6
[6] https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1321052
[7] https://www.facebook.com/EgyptianCabinet/
[8] Loveday, Heather. "Fear, explanation and action–the psychosocial response to emerging infections." (2020): 44
[9] زيجوند باومان، الخوف السائل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، (2017)، ص: 137
[10] نفس المرجع: 16
[11] نفس المرجع: 19
[12] Fisher, R. Michael, p: 4-5
[13] AjayKumar, AdityaSomani, Dealing with Corona virus anxiety and OCD https://doi.org/10.1016/j.ajp.2020.102053
[14] Holmes, R.. The problem isn’t fake news, it’s bad algorithms: https://observer.com/2016/12 .
[15] فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن معني، ترجمة طلعت مصطفي، دار القلم (الكويت: 1982)، ط(1).