د. غيضان السيد علي(*)
الجائحة هي شدة يدوم أثرها أكثر منها، وتنعطف بالبشريّة إلى مرحلة جديدة بمفاهيم وقيم جديدة تتزامن مع صعود قوى جديدة واختفاء قوى عالميّة أخرى. وما كادت جائحة كورونا Covid-19 تلقي بظلالها القاتمة على المجتمع العالمي، إلا وتباينت ردود الفعل وتعددت المعالجات الفكرية والأيديولوجية تجاه هذا الفيروس القاتل الذي بدا يملأ الكون كله رعبا، وكأنه التعبير الدقيق الذي تجسده لوحة الفنان الأمريكي ألبرت رايدر Albert Ryder "الموت على صهوة جواد شاحب"([1])، وبدأت تطغى على العالم مجموعة من القيم المتضاربة التي فضحت حقيقتها سقوط الدروع الكلاسيكية التي تمترس وراءها الإنسان معتقدًا في قوة حصونها، وظانًا أنَّه بها قد صار سيّدًا على هذا الكون، وأنَّ بيده عماره ودماره بضغطة على زر.
وساعد انتشار الفيروس على الصعيد العالمي في ظهور بوادر أوليّة لنتيجة الصراع الأزلي بين المثاليّة والبرجماتيّة لصالح الأولى للمرة الأولى، تلك المثالية الباحثة دومًا عما ينبغي أن يكون، والتي نظر إليها الكثيرون حينًا من الدهر على أنَّها قابعة فقط في صفحات الحالمين من أصحاب الكتب القديمة، ودواوين الشعراء، وأصحاب اليوتوبيا. فقد فضح الفيروس المستجد الفشل الذريع للبرجماتية وأنصارها الراهنين، تلك النزعة الأنانية التي أعلنت سيطرتها على العالم، وتخيلت برأسماليتها المسيطرة بأنها قد وصلت لنهاية التاريخ.
فالإنسان المتمترس وراء دروع حصينة، ظنَّ أنها قادرة على حمايته من قبيل: السلطة، والمال، والشهرة، والقبيلة، والأمة أو الدولة الوطنية. فجأة وجد نفسه أعزلًا بصدرٍ عارٍ أمام الموت الذي مثَّل طوفان لا عاصم منه. فالسلطة والجاه وأسوار القصور الرئاسيّة والحرس الجمهوري والملكي لم يستطع إيقاف الهجوم الفيروسي الذي أصاب أمراء، ورؤساء وزراء، ومستشاري ومساعدي رؤساء بعض الدول الكبرى. ولم يسعف المال المتراكم في البنوك حول العالم، أصحابه الذين سقطوا صرعى جراء الإصابة بالفيروس، رغم حساباتهم البنكية الطائلة التي لم يأبه لها الفيروس ولم يُعرها اهتمامًا. ولم تُجْدِ الشهرة الطاغية للفنانين ولاعبي الكرة من الإصابة بالفيروس. ولم تعصم القبيلة والعائلة الفيروس من قتل العديد من أبنائها صغارًا وكبارًا. كما أنَّ الأمة والدولة القوية والحدود الجغرافيّة وقفت عاجزة أمام اقتحام الفيروس لحدودها دون استئذان أو تصريح دخول "شأنه في ذلك شأن كافة الأوبئة التي سبقته؛ لأنَّ مفاهيم الأمة أو الحدود الوطنيّة ليست دائمًا ذات قوة تفسيرية عندما يتعلق الأمر بالديناميات البيولوجيّة التي تحدث في الطبيعة".([2])
حتى العلم بجلال قدره وبآلته التقنيّة وشبكاته الرقميّة وتكنولوجياه المتطورة وأبحاثه الفضائيّة بدا عاجزًا متحججًا بأنه يريد مهلة من الوقت يدرس فيها طبيعة ذلك الفيروس وتركيبه العضوي والكيميائي، فالفيروس قد باغته فجأة، وبدا مراوغًا يتغير ويتحور بطريقة عجيبة، بشكلٍ عجزت معه كل المحاولات الآنية لفك شفرته التي تشير إلى نقطة ضعفه، مما دعا منظمة الصحة العالمية أن تعلن أنَّ الحل الوحيد هو التكيف مع الوباء.
وأمام سقوط المتاريس والحصون الكلاسيكية ووضوح الوهن الإنساني تهاوت بعض القيم التي انبنت على الأنانيَّة والمصلحة الذاتية، وسقطت مفاهيم الجغرافيا ودول العالم الأول في مقابل دول العالم الثالث، أو دول المركز في مقابل دول الهامش؛ فقد آن الأوان لسكان دول الهامش أن يتجاوزوا الاغتراب الذي مورس عليهم تاريخيًا وجغرافيًا، فالفيروس الصغير أسكت ضجيج العواصم الكبرى ونال من غرورها وكبريائها، وبرهن على أن الهيمنة الغربية لم تكن أبدًا قدرًا مقدورًا على دول الهامش ولا فكاك منها، بل أصبح بمقدور هذه الدول تجاوز تلك الهيمنة والعبور نحو غدٍ مشرق تستعيد فيه هذه الشعوب ذاتها وإرادتها المسلوبة. لكنهم -أيضًا- لم يكونوا بمنأى عن هجوم الفيروس ودروسه العميقة التي كشفت -مع الأسف الشديد- عن هشاشة أخلاق دول الهامش ووضاعتها أيضًا.
فاتفق العالمان الأول والثالث في المركز والهامش للمرة الأولى على أنهما في خندق واحد وأمام مصير واحد مشترك، وبات السؤال الأوحد المهيمن على الإنسان العالمي الذي أوقف كل نشاطاته نحو السلطة والجاه والمال والشهرة التي ظل منهمكا في الصراع المحموم من أجلها طيلة حياته: كيف يمكن الاحتماء من هول الجائحة؟ فكيفية النجاة باتت هي السؤال الأبرز، وتعالت الصيحات عبر الشاشات والمحطات المسموعة والمرئية حول العالم بالبقاء في المنزل كملاذٍ وحيد من الموت المحقق. وأمام سؤال نجاة الذات برز سؤال الآخر، فما هو دور الذات تجاه الآخر؟ وعاد الجدل الكلاسيكي بين الأنانية والغيرية، وهل آن للجائحة أن تحسم هذا الجدل؟ هذا هو الأمر الذي فرض نفسه على هذا المقال الذي عاد إلى تاريخ الفلسفة ليجيب عليه، معبرًا عن رسالة كورونا الأخلاقية للعالم المشبع بقيم البرجماتية.
من إنسان هوبز الذئب إلى الإنسان الحَمَلْ عند جول سيمون:
قد يصل العلماء قريبًا إلى لقاح لفيروس كورونا، فحتمًا سينتهي الوباء بوجود اللقاح. لكن هل يصل البشر يومًا إلى علاج لأنانيتهم البغيضة؟ وهل يجبر الفيروس الإنسان الأناني بطبعه أن يفسح مجالا متسعًا للآخر؟ وهل يتخلى الإنسان الذئب عند توماس هوبز Tomas Hobbes (1588-1679م) عن تذؤبه، وعن عداوته لكل بني البشر؟ فالإنسان حسب هوبز -كما يخبرنا تاريخ الفلسفة- ذئب لأخيه الإنسان Homo Homini Lupus عدو له بشكل مطلق، في حالة حرب دائمة ومستمرة مع الآخر، كل آخر، إنَّها حرب الكل ضد الكل. فلا يتردد القوي في الاعتداء على الضعيف واغتصاب ما يملك، فإن أعوزته القوة اصطنع الحيلة والدهاء حتى يبلغ مأربه. ويرى هوبز أنَّ هذا كان حال الإنسان همجيًا، ولم يزل هذا حاله متمدينًا، فإن المدينة لم تفعل أكثر من أنها حجبت العدوان بستارٍ من الأدب، وأحلت القصاص -في ظل القانون- مكان استخدام العنف ومعالجة الأمور بالفظاظة([3]).
وهو الأمر الذي يؤكده هوبز بقوله: "فلندعه إذن يتأمل نفسه: حين يقوم برحلة، فإنه يتسلح...وحين يخلد للنوم، فإنه يقفل أبوابه، وحين يكون في بيته، فإنه يغلق خزائنه، وهذا مع معرفته أن هناك قوانين وموظفين عامين مسلحين، لينتقموا لأي أذى قد يلحق به"([4]). أو ما يرويه عنه صديقه ومؤرخ حياته جون أوبري John Oubery الذي نقل إلينا قول هوبز: "إنني لا أخشى الأشباح ولا الأرواح، لكن أخشى ضربة قوية تهبط على رأسي، عندما يعتقد أحد الأوغاد أنني أدخر في بيتي خمسة جنيهات أو عشرة"([5]).
وقد كشفت جائحة الكورونا زيف اعتقاد هوبز في ذئبية الإنسان لأخيه الإنسان، وقد كان العالم أجمع يعتقد في صحته، ويعيش وفقًا له، وهو على مشارف الجائحة، فما أن بدأت أخبار الفيروس تنتشر هنا وهناك إلا وتناقل الناس في كل مكان إشاعات تشير إلى أنَّ الفيروس ليس طبيعيًا أبدًا، وأن هناك تدخلًا بشريًا لتصنيعه، فتعددت الإشاعات التي تتهم الإنسان الذئب بأنه قد صنَّع الفيروس في مختبراته للانقضاض على أخيه الإنسان، إما لسرقة أمواله عن طريق بيع اللقاح المضاد للفيروس؛ فاللقاح موجود بشكل مسبق لكن يتم التستر عليه لتحقيق أكبر قدر من الأرباح. وإمَّا لاستخدام الفيروس كسلاحٍ بيولوجي، حيث نشرت بعض وسائل الإعلام الغربية كقناة "فوكس نيوز" و"ديلي ميلي" تصريحات متضاربة بشأن أن الصين مسئولة عن تصنيع الفيروس وتطويره كسلاح بيولوجي تشهره في وجه أعدائها السياسيين. في المقابل، حفلت بعض المواقع الصينية باتهامات من مسؤولين صينيين للولايات المتحدة بالأمر ذاته، في إطار حرب إعلاميّة مستمرة بين البلدين، بل تخطت الاتهامات وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لتصل إلى اتهامات رسمية على أعلى المستويات بين الرئيس الأمريكي الذي استخدم العبارة المزعجة "الفيروس الصيني" ونظيره الصيني؛ وقد ردت الخارجية الصينية على الاتهام الأمريكي بحسب ما ذكرت شبكة "سكاى نيوز" مشيرة إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة تضيع الوقت الثمين تمامًا، والذي كسبته بكين في مكافحة تفشي فيروس كورونا. وثمة إشاعة ثالثة رأت أنَّ الفيروس تم تصنيعه لغرض سياسي، وهو منع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. بينما كانت الإشاعة الرابعة هي الأكثر بشاعة في وصف الإنسان الذئب الذي يريد التخلص من آبائه؛ حيث رأى البعض أن الغرض من انتشار الفيروس يعود إلى رغبة هذه الدول بالتخلص من كبار السن الذين يمثلون عبئًا ماليًا ثقيلا يتمثل في معاشات وأدوية ورعاية صحية، ولا يتم الاستفادة منهم.
لكن بقليل من التفكير المتأني والناقد يمكن تفنيد كل هذه الإشاعات التي كان مردها الأساسي هو الوقوع في فخاخ وشراك "هوبز" المنصوبة منذ القرن السادس عشر والسابع عشر؛ فإشاعة المكسب المادي المنتظرة من بيع اللقاح الموجود مسبقًا باتت واهية ذاتيًا، حيث الخسائر الفادحة في الأرواح وفي الاقتصاد العالمي، التي لا يمكن أن يعوضها أي بيع للقاح مهما بلغت إيراداته الربحيّة. كما أنَّ العقوبات الدوليّة حال تورط دولة بعينها جراء ثبوت هذا الجرم بحق الإنسانية عليها، لا يمكن أن تتحمله أية دولة مهما بلغت قوتها. كما تتعضد هذه الرؤية بما قام به معهد "بوينتر" الذي قام بتقصي الموضوع، ولم يجد أيّ مصدر موثوق يؤكد وجود لقاح مسبق للفيروس تتستر عليه الحكومات. أما الإشاعة الثانية التي ترى أن الفيروس عبارة عن سلاح بيولوجي فيكذبها موقع "رولينجستون rollingstone" حسب تصريح أحد أساتذة علم الأحياء، أدلى به لصحيفة "واشنطن بوست"، جاء فيه أنَّه لا يوجد أي شيء في تحليل جينوم الفيروس يبين أنَّه فيروس تمت هندسته وتصنيعه معمليًا، مؤكدا أنَّ العلم يدحض فكرة أن الفيروس عبارة عن فيروس بيولوجي. ولا تقل الإشاعة الثالثة تهافتًا من سابقتيها تلك التي ترى أنَّ الغرض من الفيروس هو غرض سياسي يتغيا عدم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فلم تتضرر بريطانيا وحدها، بل تضررت إيطاليا وألمانيا وهولندا وسائر الدول الأوروبية بلا استثناء. وكانت الإشاعة الرابعة الأكثر قسوة وحدّة بحق الإنسان الذئب الذي يريد أن يتخلص من آبائه المسنين، لكن الواقع نجح في تكذيبها، حيث تشير إحصاءات المسنين الذين تم علاجهم في المشافي الأوروبية إلى عدد كبير.
وهنا تتجه الدفة إلى الغيرية، من "الإنسان الذئب" إلى "الإنسان الحَمَلْ"، من أنانية هوبز إلى غيرية جول سيمون Jules Simon (1814-1896م)، ذلك الفيلسوف الذي تجاهلته تمامًا الكتابات العربية، رغم ترجمة أحد كتبه إلى العربية منذ ما يقرب من قرن من الزمان، والذي رأى أنَّ حب الآخر مفطور في النفس الإنسانية، وأنَّ الآخر عنده لا يقتصر على الأسرة أو الوطن أو شركاء الوطن، ولكن يشمل بني الإنسان من كل جنس ولون. وكان دائما ما يردد مقولة شيشرون: "انزع من الإنسان قلبه فهل يوجد حينئذٍ فرق بينه وبين الحيوان، بل بينه وبين الحجر".
وأخذ "سيمون" يبرهن على أنَّ حب الآخر مفطور في النفس الإنسانية، فعندما "أَلقى فقيرًا يتضور جوعًا، فأسرع إلى إغاثته غير ملتفت إلى اسمه وبلده، فربما لم أرَه بعد ذلك ولكنّه إنسان. ويرى البَحّار أثناء الزوبعة مركبًا في خطر فيجازف بحياته وحياة من معه لإنقاذه لا يسأل عن هؤلاء الغرقى أمن الإنجليز أم من الفرنسيين؟ بل ربما كانوا أعداء، ولكنهم على كل حال منكوبين. ويسمع الطبيب أنين الألم فيمضي إلى مصدره، فإذا هو عدوه الشديد، ولكنه يتألم -هنا إنسان يجب إنقاذه فيخلص له الطبيب. وتدخل إحدى أشياع "سان فنسان دي بول" أحد المستشفيات غير عالمة بمن ستمرّض أو تعزي أو تشفي، فكل إنسان واثق بأنه سيجد من عنايتها ما يحتاج إليه. هذا هو حُب الإنسانيّة"([6]). الذي تتحول فيه الأنا إلى حمل وديع يبتعد تمامًا عن كل إيذاء همه الأول أن يؤنس الآخر ويحبه بلا غرض ولا هدف، بل يتعاون مع أخيه لدرء المخاطر الطبيعية. فمصابو كورونا حول العالم يَلقون الدعم المادي والمعنوي بلا تفرقة، الأطباء في كل الدنيا يساعدون الجميع بغض النظر عن الجنس أو الدين أو العِرق أو الطائفة، بل إنَّ الدول الصغيرة صارت تمد يد العون إلى الدول الكبيرة. وكان النداء العالمي الذي وجهه الأمين العام للأمم المتحدة لوقف النزاعات المسلحة حول العالم لتوحيد الجهود ضد الكورونا هو الأبرز عالميًا.
إنَّ أهمّ ما يميز نزعة "جول سيمون" الإنسانيّة أنها لا تحاكم الناس في محكمة الأنا، أو من خلال تصور الأنا القاصر، لكنّها تنظر فقط من خلال المنظور الإنساني. وهذا ما يتضح للقارئ الذي يلاحظ استشهاد جول سيمون بقول "سان مارتين" في الجزء الأولّ من كتابه "إنسان الرغبة" حول تلك العبارة التي جاءت في محاورات ابيكتيتوس، والتي نصها: "غرق أحد لصوص البحر، فاستنقذه حكيم وكساه وأطعمه، فقيل له في ذلك، فأجاب: لست أرى فيه الرجل وإنما أرى الإنسانيّة"، وتعليق سان مارتين عليها بقوله: "لو كان قاضيًا لعاقب فيه اللص، ولكنّه إنسان فحمى فيه المنكوب"([7]).
كما يرى "سيمون" أنَّ حبَّ الإنسانيّة في النفوس المعتدلة يجاور حب الأسرة وحب الوطن، فقلبي يصل حبَّه أولًا إلى من يجاورني، ثم يقوى فيمتد حنانه إلى الإنسانيّة. فحق الإنسانيّة علينا -كما يرى جول سيمون- هو أن نعامل الآخرين كما نحب أن يعاملونا، ليس فحسب، ولكنّه يرى أن للإنسانيّة حقوقًا مسبقة تبدأ بها الأنا. وأن لأمثالنا علينا واجبان: "أن لا نؤذيهم، وأن نُحسن إليهم؛ فعدم إيذاء أمثالنا هو أن لا نعتدي على حياتهم، ولا أخلاقهم، ولا حريتهم، ولا شرفهم، ولا ثروتهم"([8]). كما يؤكد "جول سيمون" على وجوب اجلال الحق في غيرنا، وفي المحافظة على حياته بكل السبل الممكنة.
أي هكذا تتهاوى نظرية هوبز حول الإنسان الذئب الذي يبحث عن الفرصة السانحة ليفتك بأخيه الإنسان، والذي أثبت فيروس كورونا تهافتها، حيث أصبح همّ الإنسان الأول هو الخروج من الجائحة التي باتت تهدد الجنس البشري كله بالفناء، ولم يسلم منها قطر بعينه. فالإنسان في زمن الكورونا ما عاد ذئبًا، بل أصبح حَمَلًا وديعًا عاجزًا عن حماية نفسه جراء ذلك الخطر الداهم. فماذا لو التحم بأخيه الإنسان ليقوي من عضده، ويشد من أزره في المواجهة المحتومة؟ أيكون الآخر هو السبيل في الخلاص والعودة إلى الأمان؟ أم ما يزال الآخر -رغم الجائحة- هو الجحيم؟.
من الخوف من الآخر عند سارتر إلى الخوف عليه عند ليفيناس:
وفي إطار تناولنا لذلك الجدل الدائر بين الأنانية والغيرية في زمن الكورونا، كان لابد أن نتوقف عند جدل سارتر/ ليفيناس، حيث ينتصر الأول للأنانيّة بشكل فج، فيصور الآخر بالجحيم، وينتصر الثاني للغيرية، فيجعل من أهم أولويات الإنسان هو حماية الآخر، بل التضحية من أجله.
والحقيقة أنَّ موقف سارتر J.P. Sartre (1905-1980) هو الامتداد الطبيعي لمشكلة الغيريّة وعلاقة الأنا بالآخر عبر التاريخ الغربي، وأنَّ ليفيناس Emmanuel Levinas (1906-1995) هو الذي يمثل الانعطاف الجذري لهذه العلاقة؛ فسارتر يواصل تلك الرؤى الأنانيّة تجاه الآخر، والتي يمثلها مذهب "الأنا وحدية"، وهو المذهب الذي لا يعترف بوجود الآخر، وينكر إمكان الاتصال الإنساني إنكارًا مطلقًا؛ ومنه مقولة نتشه Nietzsche: "إننا لا نحب معرفتنا حالما ننقلها إلى الآخرين"، ويتطرف شترنر strener إلى أبعد من ذلك، فيعرّف ذاته بأنّها الذات الوحيدة الكائنة في العالم، وليست الذوات الأخرى غير امتثالات لذاته. ويدعو شترنر إلى الإنعزالية من وجهة نظر أخلاقيّة محضة، أو لا أخلاقية بمعنى أصح. ولهذا المنهج جَانِبه الأدبي الذي نجده في أشعار ملارميه وفاليري وبروست([9]).
يرى سارتر أنَّ الأنا في صراع أبديّ مع الآخر، يحاول كل طرف منهما أن يستلب الآخر ويمتلكه. والآخر هو الموت المتحجب لإمكاناتي، فلا مجال لإقامة حوار بين الأنا الآخر؛ لأنَّ الآخر هو بمثابة الجحيم للأنا، وأيّة محاولة لمجرد تبادل النظرات هي صراع، وليست حوار، بل إنَّ الحوار سيتحول إلى تبادل موقع استراتيجي يستعد فيه كل طرف للانقضاض على الآخر. ومن ذلك قول سارتر: "إنَّ الغير يترصدني. وإذا رأيت موقفه المستعد لكل شيء، ويده في جيبه حيث يوجد سلاح، وإصبعه موضوعًا على الجرس الكهربائي، ومستعدّا لتبليغ الحارس عند أول حركة تبدر منيّ"([10]).
وقد يرى البعض أن في زمن الكورونا يمثل الآخر المصاب جحيمًا بالنسبة إلى الأنا، لكننا نتساءل فماذا عن الشخص غير المصاب؟ ومن ثمَّ يكون الموقف الوحيد هنا هو كراهية الآخر والخوف منه، حيث إنَّ المجال لا يتسع إلا للأنا، ولذا تسعى لتحطيم الآخر، أو العكس، بيد أنَّ الأمر في النهاية لا يؤدي إلى تحقيق النتيجة المطلوبة، وهي تحرير الأنا، حتى لو نجحت الأنا في الخلاص من الآخر، فإنه يظل في وعيها يقض مضجعها. وبناءً عليه، فهو موقف عبثي بالمرة، حيث إن الخلاص عند الفيلسوف الوجودي لا يتحقق أبدًا.
وعلى عكس موقف سارتر، حاول ليفيناس أن يحرر الذات من وهم الأنانيّة التي تسجن الإنسانيّة في دائرة الخوف من الآخر، فوقف في وجه كل فلسفة تنظر إلى الآخر بأنانيّة أو تخضعه لمقولات الكلية. ويمثل الوجه حجر الزاوية في فلسفة ليفيناس؛ فالوجه هو ما يحدد هوية الذات، وهو التعبير عن التفرد البشري وعن جوهر الإنسان الفردي، ومن خلال الوجه يتم التجليّ المقدّس لله. وقد عدَّ ليفيناس هذا التجلي المقدس للوجه بمثابة منظور فلسفي يتصدى لتلك النظرة الدونيّة الاحتقاريّة للآخر من طرف الذات، فكان بمثابة رد فعل مباشر لتلك الرؤية الأنانية التي سادت معظم تاريخ الفلسفة الغربية، ومن ثمَّ جاء هذا التجليّ، ليعيد الآخر إلى دائرة اهتمام الأنا بشكل يجعل الأنا مسؤولة بصورة كاملة عن الآخر، بل وحارسة له، مؤكدةً على حضور ثقافة الاختلاف وداعيةً إلى العيش سويًا ومنع هيمنة الأنا على الآخر.
ومع ليفيناس، يتحول الخوف من الآخر إلى خوف عليه، وعدم تركه وحيدًا أمام الموت؛ فالحفاظ على حياة الآخر هي مسؤولية الأنا والقلق بشأنه، وهو قلق كانطي لا ينتظر جزاءً ولا شكورا، وليس قلقًا وجوديًا عبثيًا، ومن ثم يراه ليفيناس حبًّا على طريقة بسكال "الحب بدون شبق"؛ لأنَّ هناك تفانيًا في التضحية، قداسة في الإحسان والرحمة. فموت الإنسان الآخر يجعلني موضع اتهام؛ أي إنني تخلّيت متعمدًا عن مساعدة هذا الآخر للنجاة من الموت، فأنا بذلك الفعل إنسان لا أخلاقي، تخليت بمحض إرادتي الحرة عن مساعدة هذا الآخر الذي تركته يواجه الموت وحيدًا، والذي كان من الممكن أن أمُدَّ له يد العون، لقد تركته يعاني ألم الموت وحيدًا. يقول ليفيناس: "كما لو كان ذلك الموت الخفي الذي يواجهه وجه الغير، كان أمرًا متعلقًا بي أو يخصني، وكأنَّ هذا الموت يراني. إنَّ موت الإنسان الآخر يجعلني متورطًا ويضعني موضع اتهام؛ فالأنا وكأنها قد أصبحت متواطئة بعدم اكتراثها، ولا مبالاتها يجعل منها شريكًا في موت الغير، ومن ثمَّ فهي مطالبة دائمًا بتحمل مسئولية موت الآخر، وعدم تركه يموت وحيدًا".([11])
وهنا يصبح الموت حسب ليفيناس ليس هو الحدث الذي به يفقد الإنسان وجوده، بل هو حدث الإنسان ذاته، والذي يتولد منه. إنَّه وعي إنسان بآخر، يدل على تعالي العلاقة الأخلاقيّة، حيث يضعني الآخر أمام الموت موضع سؤال ونداء، باعتباره وحيدًا أمامه. الموت هنا سيفرغ من دلالته البيولوجية والأنطولوجية، ليتحول إلى معان أسمى يمكن أن تُنْتَج من رعب الموت ذاته، وتتبلور في المسؤوليّة الذاتية عن الخطر الذي يهدد الآخر، وهكذا تتحول العلاقة مع الموت من إشكال أنطولوجي(*) إلى علاقة أخلاقيّة بامتياز.([12])
وتمتثل لدعوة ليفيناس في زمن الكورونا شركة Medtron، صاحبة أشهر مصنع لأجهزة التنفس الصناعي، لتعلن عن إسقاط حقوق الملكية الفكرية الخاصة بأجهزة التنفس الصناعي التي تملكها، ومشاركة كل التصميمات مع الدول للبدء في تصنيعها فورًا. وبذلك، تكون قد أدت واجبها نحو الإنسانية ولم تقف مغلولة اليدين أمام الذين يموتون في الدنيا كلها. وتنتفض مصر كلها لنصرة الطبيبة التي قامت بالتضحية بنفسها لتحمي الآخرين من فيروس كورونا لتكون هي ضحيته، ورغم ذلك يتنكر أهل قريتها لفعلها الإنساني، ويرفعون في وجهها شعار سارتر "الآخرون هم الجحيم" المتمثل في تجمهرهم لرفض دفن جثمانها في مقابر القرية خوفًا من جحيم العدوى. ويُوارى الجثمان في مقابر القرية بمساعدة قوة الشرطة، لتنتصر بعدها الإنسانية لذاتها بعد أن انهال السخط والازدراء والاتهام بالتجرد من الإنسانيّة على أهل القرية من كل حدب وصوب، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فقاموا بتقديم الاعتذارات لكل أهل الطبيبة المتوفاة، وقامت الدولة بإطلاق اسم الطبيبة على مدرسة القرية، وكذلك على جناح بمستشفى قصر العيني الفرنساوي أكبر المستشفيات الجامعية بمصر تكريمًا لها وانتصارًا لقيم الغيرية.
كما نظر العالم أجمع بازدراء إلى قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بوقف تمويل دولته العظمى لمنظمة الصحة العالمية في ذروة مواجهتها لفيروس كورونا، في إعلان واضح بأن صداقات أمريكا الدولية تستند أولاً وأخيرًا إلى المصلحة فقط. كما أدان العالم أجمع تصريحات الطبيبين الفرنسيين (ميرا- لوكيت) اختبار لقاحات كوفيد 19 في البلدان الإفريقية، وهو الأمر الذي لم يكن -في رأينا- سوى مقاومة بائسة أبت معها الأنانية الاستسلام بسهولة، فتشبثت بجذورها العتيقة الموغلة في التاريخ في مقابل انتصار الغيرية في زمن الكورونا، مما يوحي بأن العالم فيما بعد كورونا لن يكون هو أبدًا ما قبل كورونا.
خاتمة:
هكذا يمكننا القول إن كورونا قد جاء لرأب الصدع الإنساني الذي أحدثته الانتصارات القومية والشعبوية، مؤكدًا على المصير المشترك للإنسانية كلها، وليفضح أخلاق الأنانية الموصومة بالعار، وليكشف زيف الاختلافات الدينية والطائفية والعرقية؛ ليؤكد للجميع أن المصير البشري واحد، وأن الجدل الدائر بين الغيريّة والأنانيّة ما هو في حقيقته إلا جدلًا بين ما هو إنساني، وما هو غير إنساني، لتتجلى رسالة كورونا الأخلاقية في التأكيد على سعي العالم أثناء كورونا وما بعدها إلى مزيد من القيم الأخلاقية التي تنشد الحوار، والعيش الآمن، ومواجهة الموت والبحث عن غدٍ يحمل اطمئنان أكثر للإنسانية كلها.
كما توصلت هذه المقالة إلى زيف ثنائية (الأنا والآخر) بوصفها ثنائية استبعاديّة انطلقت وتأسست من فكرة هيمنة الذات الغربيّة على الأنا المختلف. وأن الإنسانيّة -بحسب الموقف من أخطار كورونا- كلها وحدة واحدة يؤدي تفتتها وتشظيها إلى المزيد من الصراعات التي تعود بالعواقب الوخيمة على الإنسانية ككل. فالتكامل والتعاون هو جوهر الحضارات. أما الصراع، فنتاج التنافس الاقتصادي والسياسي.
إنَّ التوجه نحو الأنانيّة ما هو إلا سلب لحقيقة الإنسان، الذي كرمه الله بالعقل والقلب، لكنه تحت وطأة الضغوط السياسية والاقتصادية سرعان ما تخلى عن ماهيته الحقيقة، وباع كرامته بقيمة يمكن تحديدها ودفع ثمنها بأوراق البنكنوت، متخليًا بذلك عن إنسانيته وكرامته الحقيقية التي لا ثمن لها. فبحسب كانط Kant: لكل شيء في مملكة الغايات ثمن أو كرامة؛ فما له ثمن فمن الممكن أن يُستبدل بشيء آخر مكافئ له؛ أما ما يعلو على كل ثمن، وما لا يسمح تبعًا لذلك بأن يكافئه شيء، فإن له كرامة. فتلك هي الكرامة التي أُهدرت تحت انتصارات الأنانية التي تَكشَّف زيفها في زمن الكورونا.
(*) أكاديمي مصري
([1]) قصّة الجواد الشاحب والفارس الذي يرمز للموت لها أصل ديني، إذ يذكر الإنجيل أن رجلا يمتطي حصانا شاحبا سيظهر في الأرض قبل حلول الساعة، فينشر الأوبئة والأمراض الخطيرة وأن الموت سيطبق على البشر، عدا الذين يختارون الربّ هاديا ومرشدا. وفي النهاية، سيتدخّل الإله لمنع اجتثاث البشر من الأرض قبل أن ينزل المسيح من بين الغمام، ليعلن قيام مملكة الربّ الأبدية.
([2]) صلاح عثمان، أزمة كورونا والمقاربات الدينية، على الموقع الإلكتروني التالي:
https://almojaded.com/2020/04/09/أزمة-كورونا/?fbclid=IwAR1V5UUJTeAVp6F5nKljxwEF-BsByqI1PTC0yhyvBtkgmfI9hFzg8NEZJSM
([3]) توفيق الطويل، الفلسفة الخلقية - نشأتها وتطورها، القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة الثانية، 1967، ص180
([4]) توماس هوبز، الليفياثان- الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حرب وبشرى صعب، مراجعة وتقديم: رضوان السيد، دمشق، دار الفارابي، الطبعة الأولى، 2011، ص135
([5]) John Aubery, Briest Lives,ed. By Oliver Lawson Dick, Penguin Books, 1978, p.135
([6]) جول سيمون، الواجب، ترجمة: محمد رمضان - طه حسين، تقديم: أحمد زكريا الشلق، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الجزء الثاني، الطبعة الثانية، 2010، ص90
([7]) المصدر السابق، ص ص90-91
([8]) جول سيمون، الواجب، ترجمة: محمد رمضان - طه حسين، تقديم: أحمد زكريا الشلق، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الجزء الرابع، الطبعة الثانية، 2010، ص44
([9]) انظر: فؤاد كامل، الغير في فلسفة سارتر، القاهرة، دار المعارف بمصر، د. ت، ص 15
([10]) جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة عبدالرحمن بدوي، بيروت، دار الآداب، الطبعة الأولى، 1966، ص 443
([11]) Levinas, Entre-nous or Thinking- of- the- Other, translated from the French by Michael B. Smith and Barbara Harshay, Columbia University Press, New York, 1998, P.186
(*) يقصد بالموت كإشكال أنطولوجي أنه يتفاوت وجودًا وعدمًا مع وجود الإنسان؛ فإذا وجد الإنسان فإن موته غير موجود، وإذا وجد موته فهو غير موجود.
([12]) رحيم عمر، فينومينولوجيا الوجه والإيروس عند إيمانويل ليفيناس، رسالة ماجستير غير منشورة، شعبة الفلسفة، قسم العلوم الإنسانية بكلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية بجامعة أبي بكر بلقايد، تلمسان- الجزائر، 2015-2016، ص 73