أخر الاخبار

عندما يكون علماء الشريعة ضحايا الإعلام السياسي


إحسان الفقيه

يقول الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين: «الحقيقة هي أثمن شيء لدينا.. دعونا نقتصد فيها».
ربما صار هذا المعنى علامة بارزة على أداء الإعلام المصري، خاصة منذ الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي، حيث صار مُقتصدا للغاية في قول الحقيقة وفق التعبير الساخر لتوين.

وقع كثير من رموز وشرائح المجتمع ضحايا تناول الإعلام السياسي المصري، وهو مصطلح يشير إلى الإعلام المُسيس الذي يُعبر عن توجهات الدول والأحزاب والكيانات السياسية، ويخدم أغراضها، ومن أبرز الفئات التي هاجمها الإعلام السياسي في مصر فئة علماء الشريعة ودعاتها.

فبعد أن تم الإجهاز على تيار الإسلام السياسي، وتم استيعاب الفصيل السلفي الذي انبثق منه حزب النور، واستخدامه في شرعنة الانقلاب، طفق إعلاميو النظام يؤلبون على الدعاة، الذين يمثلون التيار السلفي المستقل، ويستخرجون أوراقا من ملفاتهم القديمة، بهدف التمهيد لاستئصالهم، أو على الأقل إقصائهم عن ميادين الدعوة.

وأراني في البداية بحاجة إلى التذكير بأن الثورة المضادة للربيع العربي، قد خلقت نوعًا من الجفاء مع العلماء والدعاة، بسبب تعاون بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة مع الأنظمة الحاكمة، ومن ناحية أخرى غزارة المواد الإعلامية والدرامية، التي تُرسّخ صورة ذهنية بالغة السوء عن حملة العلم الشرعي ودعاته.
وكثيرا ما هاجمتُ في كتاباتي هذه الفئة من العلماء والدعاة، التي تهادن الحكام وتُكرّس للظلم الاجتماعي تحت مظلة طاعة أولي الأمر، لكن مع ذلك لابد من الإشارة إلى أن هذه الفئة ليست هي الأصل، وإنما جُعلت هكذا بسبب تسليط الضوء عليها، ووقوع الجماهير في مصيدة التعميم. من هذه النماذج التي وقعت ضحية للإعلام السياسي في مصر، عالم الحديث أبو إسحاق الحويني، وهو شيخ سلفي مستقل، بمعنى أنه رمز للمنهج السلفي لكنه ليس محسوبا على جماعة أو حزب، وله شعبية كبيرة في بلاده والعالم الإسلامي بصفة عامة. وخلال حملة ممنهجة، كثّف إعلاميو النظام الهجوم على الرجل، واستخرجوا من (أرشيف) محاضراته ما جعلوه مادة خصبة للنيل منه، وهي مقاطع يقرب فيها ببعض أخطائه العلمية في فترات الشباب الأولى، ومن ذلك انتقاده لبعض جهابذة المحدثين القدامى، بكلمات لا أراها شخصيا تحمل تجاوزًا، لكنه يرى من نفسه أقل من أن يقولها بحق كبار الأئمة، حيث قال في معرض استدراكه على «علي بن المديني»: ما هكذا تورَد الإبل. كما ذكر الحويني أنه لِقلة بضاعته العلمية في البداية، كان يدعو أهل القرى للسنن على أنها فرائض، جهلًا بدرجات الأحكام الشرعية، وأنه بعد ما كبر وازداد علمًا، جعل يصحح أخطاءه في المجالس العلمية.

إلى هنا، لا يرى أي عاقل غضاضة في ذلك، بل إنها تُحسب له لا عليه، فالخطأ وارد، والرجوع عنه إلى الصواب منقبة، وكما قيل في بعض كتب الأدب القديم: «وينبغي للعاقل أن يكون لهواه متهماً، ولا يتمادى في الخطأ إذا ظهر له خطؤه، ولا يقدم على أمرٍ حتى يتبين له الصواب، وتتضح له الحقيقة، ولا يكون كالرجل الذي يحيد عن الطريق، فيستمر على الضلال، فلا يزداد في السير إلا جهداً، وعن القصد إلا بعداً». بيْد أن إعلاميي النظام ومن سار على خطاهم من مشايخ السلطة، كالوا الاتهامات إلى الحويني بأنه أفسد الناس، وتلاعب بالدين، وبيّن زيف المنهج السلفي إلى غير ذلك من التهم، بهدف التشكيك في بضاعة العلماء والدعاة وعدم الوثوق بهم. واستمرارًا لمسلسل التزييف والتدليس، الذي اشتهر به إعلاميو النظام في مصر، قاموا باجتزاء بعض عباراته من سياقها، حتى يصل إلى المشاهد ما يريده هؤلاء الإعلاميون، حيث أن دائرة تأثيره العلمية واسعة في مجتمعه، بل ربما تكون تمهيدا لاعتقاله، بعد ادعاء بعض الإعلاميين بأن الحويني كان يُحرض الشباب على الانضمام لـ»داعش»، علما بأن الدواعش حكموا على الشيخ بالردة والكفر.

حملة استهداف للدعاة والعلماء، حتى الذين لا يجهرون بمعارضة السيسي ويركزون على دعوة الناس إلى الفضيلة والاستقامة
نموذج آخر لداعية وقع ضحية من ضحايا الإعلام المُسيس، وهو حازم شومان، ولم أكن أسمع به لولا متابعتي لبرامج إعلاميي السلطة، فلما تتبعتُ أخباره، ألفيته داعية على النهج السلفي أيضا، له جهد كبير في دعوة الشباب إلى الاستقامة، بالتوازي مع التنمية البشرية وإدارة الذات، فمعظم جمهوره من الشباب، وتمتاز معالجاته لقضايا الشباب بالوسطية والبساطة والتطرق إلى الجوانب العملية، كما أنه يرتاد أماكن الشباب، ولا يكتفي بالظهور الإعلامي.. أحد الإعلاميين العلمانيين الذين يتخذون موقفا عدائيا لكل حامل لعلوم الشريعة ـ بمن فيهم شيخ الأزهر- نبش في تاريخ الداعية، واستخرج منه ما يفيد أنه كان يتحدث إلى المعتصمين من فوق منصة ميدان رابعة العدوية، الذي اعتصم فيه أنصار الشرعية بعد الانقلاب، وبثّ له مقطعا آخر ينهى فيه الناس عن النزول لتفويض السيسي، الذي طلبه لمواجهة الإرهاب المحتمل، وأوضح أن هذا التفويض بمثابة توكيل بالقتل وسفك الدماء. السؤال هنا: لماذا تم استدعاء هذه المشاهد بعد سبع سنوات مضت؟ ولو كان للداعية، بعد تمكُّنِ السيسي أي نشاط مريب يعادي السلطة، هل كانت الأجهزة تجهله؟ لا مناص من القول بأنها حملة استهداف للدعاة والعلماء، حتى الذين لا يجهرون بمعارضة السيسي ويركزون على دعوة الناس إلى الفضيلة والاستقامة، وذلك بهدف تحييد الدين عن أوجه الحياة في مصر، واستبداله بإسلام آخر تُقره مؤسسة راند، وغيرها من مراكز البحث التي تخدم صناعة القرار الأمريكي.

تحميل محاضرات mp3 للشيخ صالح المغامسي - ملتقى أهل الخير - محاضرات mp3

وعلى الجانب المقابل، وقع الإعلام المصري المعارض – الذي يندرج كذلك تحت مصطلح الإعلام السياسي، باعتباره يروج لتوجهات المعارضة ومعاركها مع النظام – وقع في الخطأ نفسه، فأحد الإعلاميين البارزين المعارضين، جعل من الشيخ السعودي صالح المغامسي مادة خصبة للهجوم على النظام السعودي، الذي مالأ نظام السيسي ودعمه. وعلم الله أنني كثيرا ما أنتقد المغامسي كأحد رجال ابن سلمان، وعلم الله أنني أُكنّ لهذا الإعلامي المعارض الاحترام، لكن الحق أحق أن يتبع. فالإعلامي عرض مقطعا متلفزا للمغامسي وهو يقول إن الذبيح في قصة النبي إبراهيم كان إسحاق وليس إسماعيل، واعتبر الإعلامي أن هذا القول ينطلق من توجهات الحكومة السعودية في التطبيع مع الكيان الصهيوني. والحق أن تعيين الذبيح قضية اختلف فيها أهل التفاسير والمؤرخون، واختيار المغامسي لهذا القول كان بناء على فهمه للآيات، لمسألة ساغ فيها الاختلاف، ولن يترتب عليها واقع عملي، وقال به بعض العلماء، ولا تثريب فيها على المخالف، واستغلال مثل هذا الحدث دون تريث وبحث، يضر بمصداقية المعارضة وليس في صالحها.

لست ممن يضع العلماء والدعاة فوق مستوى النقد، لكن ينبغي أن يكون نقدا موضوعيا، يستند إلى حقائق، وبعيدا عن القص واللزق واجتزاء الكلام من سياقه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-