أخر الاخبار

أوقفوا الإرهاب ضد الحقيقة.. أولاً نداء مفكر عربي لتجاوز «ثقافة الخداع» لدى الجانبين


أوقفوا الإرهاب ضد الحقيقة.. أولاً نداء مفكر عربي لتجاوز «ثقافة الخداع» لدى الجانبين

أ.د محمد جابر الأنصاري

نحو عروبة لا تخشى المساءلة - محمد جابر الأنصاري

كي لا يتحول الحادي عشر من سبتمبر إلى مناحة سنوية ومناسبة لبعث الأحقاد وتبادل الاتهامات بين الغرب والعالم الإسلامي، لابد من وقفة شجاعة من الجانبين حيال فظاعته وبشاعته، وكذلك حيال فظاعة وبشاعة الأسباب والجذور العميقة التي يتحمل الغرب وزرها وخاصة في فلسطين رافضاً بتأثير «ثقافة الخداع» التي يمارسها إعلامه وساسته، حتى مجرد النظر في وجاهتها وأهميتها..
غير ان «ثقافة الخداع» التي تعمي الغرب عن رؤية الحقيقة العربية الإسلامية، تمثل في صورة أخرى عبئاً أكبر وأخطر على عقول العرب والمسلمين.
فبدايةً قل الحق ولو على نفسك، ولابد من الاقرار والاعتراف ان الثقافة السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية إعلاماً وسياسة واجتماعاً وتربية تشتمل على قدر كبير من التزوير والغش الذي يدخل في مفهوم ثقافة الخداع، انها هنا مخادعة اخطر للنفس بشأن الذات وبشأن العالم والآخر، وهي سائدة في الخطاب المسيطر بين حاكم ومحكوم، ورئيس ومرؤوس، وواعظ وموعوظ، ورجل وامرأة، وأب وابن، ومعلم ودارس، وكاتب وقارئ، وهي تتجاوز مخادعة الذات إلى تضليل النفس بشأن حقيقة الآخر و«الخصم»، وخاصة فيما يتعلق بفهمنا المضلل لحقيقة الحضارة الغربية والقوة الغربية.
هذا ما ينبغي ان يعترف به في البداية، ثم نقف عنده كل يوم، فالظن لا يغني عن الحق شيئاً، «وما ثقافة الخداع إلا ظن لا يضلل إلا أصحابه وحدهم».
ولكن الأدعى للعجب والانتقاد ان تقع المجتمعات الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي تعتبر متقدمة معرفياً وعقلياً ونقدياً في أسر ثقافة الخداع بشأن ما يشكل ربع جغرافيا البشرية وهو العالم الإسلامي.
فعلى تعدد أبعاد المواجهة بين الغرب والإسلام فإن المسكوت عنه والممنوع في الخطاب الأمريكي بالذات من الحقائق الحاسمة بشأن العرب والمسلمين يمثل جوهر الخلل في محاولة التفاهم بين الجانبين، ممنوع ومسكوت عنه ليس بالضرورة جهلاً به وإنما تخوف من انتقام الهيمنة على العقل الأمريكي المنحاز بشكل ظالم لأية سياسة إسرائيلية وان خرجت إسرائيل على كل حدود العالم المتحضر وعلى المعايير الأمريكية ذاتها، من أجل مصالح ضيقة بطبيعة الحال، ولكن الأخطر من ضيق المصالح ان الغرب مازال يتهرب من رؤية الحقيقة الإسلامية ويرفض رؤيتها إلا مشوهة ومزورة، وهذه الإعاقة المعرفية يمكن ان تهدد مصالحه وترتد عليه ذاته كما ارتدت يوم 11 سبتمبر.
من أبرز هذه الحقائق المغيبة والمعرضة للارهاب في الخطاب الغربي والأمريكي بالذات التي يجدر بكل متأمل منصف لتاريخ العصور الحديثة ان يلاحظها ان العالم الإسلامي أخذ يتعرض منذ بدء الحداثة الأوروبية عبر ثلاثة قرون، لضغط القوى الاستعمارية مما أدى إلى تصفية أهم كيانين سياسيين وهما الكيان العثماني وكيان السلطنة الإسلامية في الهند، وفي هذه الأثناء احتلت الجيوش الأوروبية تدريجياً أهم عواصم الحضارة الإسلامية شرقاً وغرباً، انتهاءً بسقوط اسطنبول وتصفية الخلافة الإسلامية بكل ما تضمنته من جرح واحباط في وجدان المسلمين، إلا ان كل هذه الاحتياجات الغربية واجهتها المجتمعات الإسلامية بوسائل المقاومة الوطنية المعتادة في العالم كله، خلال تلك الفترة الزمنية الطويلة، ورغم معاناة المسلمين تحت الحكم الأجنبي وثقافته، فإن تلك المقاومة لم تتحول قط إلى ما يمكن اعتباره «ظواهر ارهابية» أو «انتحارية» كما دُفعت إلى ذلك، وتورطت فيه، عناصر من مجتمعات إسلامية في وقتنا هذا.
ذلك إن الإسلام، كغيره من الأديان والثقافات، وان شرع الدفاع عن النفس والمبدأ والوطن، وأعلى من شأن من يضحي في هذا السبيل المشروع، إلا انه اظهر احتراماً عالياً للحياة وحقوق الإنسان فيها، وحرّم الانتحار، ولم يبح للمنتحر شعائر الدفن الإسلامية، وأكد القرآن منذ البدء تقدير الإسلام للحياة الإنسانية في آيات جلية: {ولا تٍلًقٍوا بٌأّّيًدٌيكٍمً إلّى پتَّهًلٍكّةٌ}، و{ مّن قّتّلّ نّفًسْا بٌغّيًرٌ نّفًسُ أّوً فّسّادُ فٌي الأّّرًضٌ فّكّأّنَّمّا قّتّلّ النَّاسّ جّمٌيعْا} محدداً تحديداً دقيقاً مسؤولية كل إنسان بمفرده {وّلا تّزٌرٍ وّازٌرّةِ وٌزًرّ أٍخًرّى"}.
على صعيد آخر، كان معظم مفكري النهضة في الإسلام دعاةً للانفتاح على التقدم الحضاري في الغرب، من شيوخ الأزهر والنجف إلى عمداء الجامعات العربية، رغم وطأة الاستعمار الأوروبي الذي كانت الولايات المتحدة أول من ثار عليه، وأعطى للشعوب المحتلة نموذجاً وقدوة، وإذ أحدثكم من البحرين التي نهضت لمسؤوليتها التقدمية ملكاً وشعباً في ظل الاصلاحات الديمقراطية الدستورية الشاملة، فإني انقل إليكم نموذجاً حياً لواقع التجديد والانفتاح والتعايش في العالم العربي والإسلامي.
وفيما يتعلق بموقف العرب والمسلمين حيال الولايات المتحدة بالذات، فقد ظل قادتهم البارزون إلى منتصف القرن العشرين من الملك عبدالعزيز آل سعود إلى الرئيس جمال عبدالناصر على ما بينهما من فوارق سياسية وفكرية يميزون بين السياسات الأوروبية، والسياسة الأمريكية التي اعتبروها حينئذ مستقلة وأقرب إلى الموضوعية والرغبة في التعامل المتكافئ، وبقيت مبادئ الثورة الأمريكية وقيمها الدستورية والديمقراطية مصدر الهام للكثيرين في العالم الإسلامي.
وهنا لابد للجميع وعلى الأخص الأمريكيين والأوروبيين ان يواجهوا حقيقة من حقائق التاريخ المعاصر وهي ان الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة قد عملت على تخريب هذا الرصيد من العلاقات والصداقة والاعجاب الفكري والحضاري لدى العرب حيال الولايات المتحدة وأوروبا، وثمة دلائل مؤكدة تثبت ذلك إلى حد تفجير المراكز الثقافية الأمريكية في العواصم العربية بإيحاء إسرائيلي، للوقيعة بين العرب والأمريكيين، وعلى من يهمهم الأمر التنبه إلى ان هذا النهج الإسرائيلي مازال مستمراً.
وإذ ابتغت إسرائيل من ذلك حجب التفهم السياسي الغربي لمشكلة تشريد الشعب الفلسطيني، والاستئثار بمساندة القوى الغربية، فإن النتيجة التاريخية المؤسفة الأعم والأوسع هي خلق فجوة وهوة واسعة بين المجتمعات الإسلامية من ناحية وقيم ومنجزات الحضارة الغربية من جهة أخرى، وذلك ما يدفع الغرب ثمنه بشكل باهظ اليوم وليس العرب المسلمون فحسب الذين يراد ابقاؤهم بهذه السياسات في حالة تخلف وضعف لا ننكر مسؤوليتهم التاريخية هم أيضاً عنها، فلا مهرب من الاقرار والاعتراف ان الأفراد المنتمين إلى الإسلام، والمهتمين في أمريكا والغرب بارتكاب الهجمات الفظيعة يوم 11 سبتمبر، هم بالدرجة الأولى تكويناً وثقافة ضحايا تلك الهوة والفجوة الرهيبة التي اقيمت بين الإسلام وأمريكا منذ عقود من الزمن، لا مهرب من مواجهة هذه الحقيقة بكل أبعادها إذا ارادت أمريكا حماية نفسها من أجيال أخرى من الانتحاريين.وللحقيقة التاريخية أيضاً، فإن أبرز حدث ارهابي ضد المدنيين والأبرياء قد وقع في الشرق الأوسط على يد مناحم بيغن زعيم الهاغاناه باعتراف السلطات القضائية البريطانية وملاحقتها قضائياً له مع أفراد عصابته في ذلك الوقت، إن مناحم بيغن الزعيم التاريخي لليكود بحكم الواقع التاريخي والأسبقية الزمنية هو رائد الإرهاب في الشرق الأوسط الحديث ويتساءل المرء ان كان أسامة بن لادن سيحصل على جائزة نوبل للسلام كما حصل عليها مناحم بيغن فيما بعد..
وأجيال الارهابيين الذين تتردد أسماؤهم وصورهم بكثرة هذه الأيام، هم بحكم التراكم السببي التاريخي في معظم مجتمعات الشرق الأوسط من سلالة أشخاص مثل مناحم بيغن، وإلا فلماذا لم يفرز العالم الإسلامي إرهابييه وبهذا العدد قبل ذلك التاريخ والحدث؟ ولكل فعل ردة فعل، هذا تعبير يتعلمه طلبة المدارس الأمريكية منذ الصغر.
ثم يبقى، في نهاية هذه الكلمة الوجيزة، وكمهتم بالتفاعل الفكري بين الإسلام والعالم المعاصر، وخاصة في الغرب، ان اطرح على محاورينا الغربيين والأمريكيين بالذات الأسئلة الثلاثة التالية:
السؤال الأول: لقد أظهر الغربيون في تقدمهم الحضاري وخاصة الأمريكيين منهم مقدرة هائلة على التسامح مع العقائد والثقافات الأخرى فعلى امتداد العصور الحديثة تصالحت أولاً البروتستانية الثائرة مع الكاثوليكية، ثم تصالحت المسيحية مع اليهودية التي لم تنعم بالتسامح من قبل إلا في ظل الإسلام وفي المغرب بخاصة الذي يتعرض اليوم لضغط يفتقر للحكمة والانصاف من جواره الأوروبي، ثم تصالح الغرب بتراثه اليهودي المسيحي مع عقائد الشرق البعيد كالبوذية والهندوسية.. الخ، وكان ذلك كله إنجازاً متقدماً في تاريخ البشرية.
فمتى تجتاز المسيرة الغربية امتحانها الأصعب ومحكها الحقيقي في التعايش والتسامح، فتتصالح مع الإسلام، لماذا تأجلت هذه المصالحة التي يحتمها منطق التقدم الفكري والحضاري في الغرب؟ لمصلحة من تتأخر، ومن يقف وراء تخريب هذه المصالحة؟ وعلينا ألا ننتظر مجتمعات منهكة ومتعبة وبعضها محتل بأن تبادر هي إلى مثل هذه المصالحة التاريخية المؤجلة.. كالمجتمعات الإسلامية.
فلا بد ان تأتي المبادرة من القوي المتقدم أولاً.
فهل يتجاوز الغرب ذاته، كما تجاوزها مع اليهودية وعقائد الشرق الأقصى، فيتصالح مع الإسلام؟
ذلك سؤال بحجم مستقبل العالم صراعاً أو وئاماً، وجوابه بيد كافة القوى الفاعلة في الولايات المتحدة.
سؤالنا الثاني: ما تفسير الرفض الأمريكي المطلق للبحث عن أسباب وجذور الإرهاب المنسوب إلى عناصر إسلامية؟
لقد قامت حضارة الغرب على مبدأ السببية، فلكل شيء سبب محدد، حتى نزعات اللا وعي واللا معقول في باطن النفس البشرية لها أسبابها «العقلانية» المحددة في العلوم الغربية. فلماذا التهرب من بحث أسباب الارهاب في العالم الإسلامي وخاصة في فلسطين المحتلة؟ هذه إشكالية أخرى لا بد من مواجهتها إذا كنا لا نريد الغاء السببية من منطلق العالم والعصر لصالح منطق جماعات الضغط وغرائز اللا معقول في التسلط، إن رفض هذه السببية هي تدمير لعقلانية العصر الحديث والعالم المتحضر بأكمله.
أما السؤال الأخير: فلماذا يحق لجميع شعوب العالم بما فيهم الإسرائيليون إقامة دولتهم المستقلة.. إلا الفلسطينيون؟ أليس الفلسطينيون بشراً يشملهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
هل من جواب لدى أصدقائنا الغربيين والأمريكيين بالذات؟ وإذا كانوا قد سلّموا مؤخراً بذلك نظرياً، فإن سؤال غولدامايير: أين الفلسطينيون إني لا أراهم؟ مازال سيد الموقف، ومن المؤسف ان أحفادها رأوا أحفادهم في النفق الدموي بعيداً عن الهواء الإنساني الطلق..
إن الأمر يتطلب شجاعة معنوية قبل كل شيء، ومن المؤكد ان الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً لا تنقصهم الشجاعة من ناحيتهم، بل إن الحضارة الغربية في تقديري هي عمل من أعمال الشجاعة، فلماذا تُفرغ من مضمونها عندما تتعامل مع هذه المسألة؟ وتجبن أمام اللوبي المتحيز لإسرائيل؟ لقد كذّب الغرب معظم نبوءات سقوطه، ونأمل ألا يسقط باستسلامه لغرائز التطرف الإسرائيلي فسقوط الغرب وجبنه أمام الابتزاز الإسرائيلي يكاد يمثل مقتله، والفتاة الإنجليزية التي قررت اعتناق الإسلام لأن أحداً من كرادلة الغرب لم يجرؤ على فتح فمه أمام الحصار الإسرائيلي لكنيسة المهد لن تكون الوحيدة بين الأجيال الجديدة في الغرب، ومن هنا فإن أمريكا بحاجة إلى امتلاك شجاعة الحقيقة بقدر اندفاعها لاثبات شجاعتها ضد الإرهاب.مطلوب وقف الإرهاب ضد الحقيقة أولاً في الغرب وأمريكا لنصبح بعدئذ شركاء حقيقيين في محاربة الإرهاب من أي نوع.
وقد لا يكون الأمر ميئوساً منه، فقد أنجبت هذه الحضارة ايزنهاور وديغول اللذين لم يفتقرا إلى شجاعة الحقيقة مع النفس في اللحظة الحاسمة.
فهل عقم الغرب عن إنجاب مثلهما؟ تلك هي المسألة.
***
يبقى ان نعود إلى سطوة ثقافة الخداع على العقل العربي والإسلامي في هذه الحقبة المظلمة، رغم بروقها الظاهرة.. فالإرهاب الذي تمارسه قوى التسلط المادي والمعنوي ضد الحقيقة بأنواعها في خطابنا العام أقدم من أي إرهاب آخر.
وتحليل ثقافة الخداع ونقدها في تلافيف العقل العربي يحتاج إلى مجلدات لا يسعها هذا الحيز، وإلى إرادة صلبة لتحريره من قبضتها الطاغية في واقعه وفي بعض عهود تاريخه.وهذه مهمة جليلة وخطيرة تنتظر شجاعة الأجيال الجديدة في العالم العربي والإسلامي وقدرتها على امتلاك المعرفة الحقة، فهل يمتلك المسلمون والغربيون الشجاعة المتبادلة للتحديق بنقاوة في عيون الآخر؟ بعد تمزيق غشاوة الإرهاب ضد الحقيقة.. هنا.. وهناك؟
نقول بالعربية لن يصح إلا الصحيح ويقولون الحقيقة ستنتصر (Truth Will Triumph) فتلك حكمة مأثورة في تراث الغرب الذي لم نحترمه إلا لالتزامه بها، ولن نحترمه إلا إذا أكد التزامه بها وبشجاعة في وجه شارون، كما فعل حيال الطغاة من هتلر إلى ستالين، إذا كان مازال يمتلك شجاعة التصدي لإرهاب الطغاة قبل إرهاب اليائسين الصغار.

(*) مفكر من البحرين، أستاذ في الدراسات الإسلامية والفكر المعاصر وبعض أفكار المقالة طرحها الكاتب في ورقته بندوة أصيلة مؤخراً التي حضرها مفكرون وسياسيون غربيون.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-