-->

الرشيد الرشيد
random

آخر المواضيع

random
arrashyd
جاري التحميل ...
arrashyd

نحو عروبة لا تخشى المساءلة - محمد جابر الأنصاري

نحو عروبة لا تخشى المساءلة - محمد جابر الأنصاري

نحو عروبة لا تخشى المساءلة

 محمد جابر الأنصاري
بعد كل ما حدث ويحدث للعرب في اللحظة الراهنة، هل تسمح لنا أمانة العلم ومسؤولية التاريخ والمصير أن نعيد ونستعيد الكلام المدرسي المكرور عن ثوابت “الهوية العربية” والنقد المتداول الموجه لعصر العولمة المتغير، ثم نحذر من مخاطره وندعو -وعظاً كالعادة- للحفاظ على الثوابت القومية أمام المتغيرات الدولية..

وطبعاً بفذلكة فكرية تبدو عليها علامات “العصرنة” و”التوازن” و”الاعتدال” بإقامة تلك المعادلة الكلامية المستهلكة بين الأصالة والمعاصرة التي لم يخل منها أي “بيان تاريخي” للمثقفين العرب دون أدنى تأثير في تضاريس الواقع العربي... (وما يجب أن يقال إن المراوحة النظرية الطويلة بين الأصالة والمعاصرة دون أن تظهر ثمرة ملموسة من تفاعلهما في الواقع العربي، دليل على أن العلاقة بينهما غير صحية وأن الأمة -وعلى الأخص قادتها ونخبها- غير متمكنة من إدارة هذا التفاعل بشكل صحي، علماً أن ما يجب النظر إليه هو طبيعة البنى المجتمعية التحتية في القاع السوسيولوجي العربي وعلاقتها بمتغيرات التاريخ والعصر. (فطالما تساءلت وأنا أسمع عن مؤثرات العولمة، ما تأثيرها على القبائل في اليمن وغيره والأثنيات في العراق وغيره، والطوائف والمذهبيات في لبنان وغيره).

أياً كان الأمر،... إذا خرجنا على هذا “المألوف” ولا بد أن نخرج... فماذا نحن قائلون... والأهم ماذا نحن فاعلون؟!

إن المشكلة الأساسية في هذه اللحظة التاريخية تكمن في شخصية “العرب المعاصرين” وفي ذهنيتهم وسلوكهم مع أنفسهم ومع العالم، أما ما تعارفنا عليه ب “الهوية العربية” فمخزون وموروث جمعي تاريخي طويل الامتداد في الزمان والمكان مليء بالأمجاد والإيجابيات وبالتناقضات والتعارضات -في الوقت ذاته- ضمن تجربة الأمة عبر القرون تقدماً وتخلفاً، ويمكن أن يُنتقى منه ما شكل من ناحية فكر الرواد المتقدمين الأوائل في النهضة العربية الحديثة من الطهطاوي إلى الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وخير الدين التونسي... كما يمكن من ناحية أخرى أن ينتقى منه ما يشكل اليوم فكر الجماعات التكفيرية والإرهابية!! فأية هوية نعني؟؟

منذ البداية نبه الإمام علي بن أبي طالب المسلمين في صدر الإسلام وفي مستهل الفتن إلى أن: “القرآن حمّال معان وحمّال أوجه.. وهو خط مسطور لا ينطق وإنما تنطق به (أي بتفسيره) الرجال”.

وطالما توقفت في زمننا متسائلاً أمام الظاهرتين المتناقضتين في الشرق الإسلامي واللتين يفترض انتسابهما معاً.. إلى التراث الإسلامي الواحد و”الهوية” الإسلامية الواحدة.

وهما ظاهرة طالبان في أفغانستان المسلمة.. والظاهرة الاتحادية المتقدمة في ماليزيا المسلمة أيضاً؟ (كتاب المؤلف: مساءلة الهزيمة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ،2001 ص 89-90).

في الحالتين هنا إسلام وهناك إسلام. وهو إسلام “واحد” بطبيعية الحال جاء به الوحي من حيث الجوهر. ولكن أي فارق فظيع ومريع في الواقع بين الحالتين والظاهرتين؟.. ما تفسير ذلك؟ وماذا يجب أن يعني لنا نحن العرب الذين يمثل وطنهم العربي منطلق الإسلام وقلبه ومركزه.. وفي زمن “الصحوة” الإسلامية! (ونحن في أشد الحاجة، بالمناسبة، إلى صحوة عقل تسند هذه الصحوة، بكل ما يعنيه العقل من تشخيص وتحليل ونقد ثم إعادة تركيب... وإلا فهو ما نشهده اليوم من تفجير للذات قبل الآخر، أليس ذلك هو انتحار الهوية؟!!).

وقبل الدخول في صميم إشكال الهوية، هويتنا نحن العرب المعاصرين في هذا العصر... وليس في العصر الأموي أو الفاطمي أو العثماني... أود أن أسجل تحفظاً أساسياً أخذ يقض مضجعي فكرياً.. ويجب أن يقض مضاجعنا جميعاً إذا أردنا إنقاذ الوجود العربي في هذا العصر، بل إذا أردنا مجرد تحقيق الوعي الصحيح بهما.. بالهوية وبالعصر:

ما أريد أن ألفت إليه هو هذه الفجوة الشاسعة المخيفة بين ضجيج الكلام العربي في الفضائيات والندوات والصحف والمجلات وسائر المطبوعات والمنابر، وبين حقيقة الواقع العربي. يكاد المراقب والراصد للعلاقة بين ذلك الكلام وهذا الواقع أن يجزم بتجمد وموت “المفصل” الواصل بين القول والفعل في الحياة العربية. فليس ثمة علاقة مسؤولة بين ضجيج وادعاء وتزوير وكذب، من ناحية، وبين واقع آخر نقيض... ومختلف تماماً ينطق بعكس ذلك نتهرب من حقائقه ووقائعه ونكابر بشأنها -أنظمة وشعوباً وقادة فكر- مكابرات لن يسجلها التاريخ، ولا المستقبل، لا لمصلحتنا.. ولا لبقائنا في هذا العصر...

ما تفسير هذا التناقض المخيف؟ وكيف نعيد الحياة إلى “المفصل الميت” المتجمد والمنقطع بين كلامنا وواقعنا؟؟

عندما تخفق تجاربنا القومية في المنعطفات التاريخية المريعة نسمع العبارة المعلبة الجاهزة والمستهلكة: الخطأ في التطبيق وليس في النظرية والمبادئ... حسناً، ولكن إلى متى ستبقى مبادئنا معلقة في سماء اليوتوبيا والمثاليات الأفلاطونية؟ ومتى سنتخذ الوسائل العملية لإنزالها على سطح الأرض؟ ولماذا بقينا عقوداً بعد عقود ونحن نعلن أفضل المبادئ ونعيش أسوأ الأوضاع؟ ما تفسير هذا التناقض الحاد المقيم... ومن المسؤول؟

إن لم نعالج هذه “الإعاقة” الخطرة في السلوك العربي الراهن، فإن الكلام سيزداد تضخماً بينما سيزداد الفعل هزالاً وضموراً، وقد اقترب من مستوى العدم.. (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).. أليس هذا التوجيه الحكيم من رصيد “الهوية”؟ فماذا فعلنا به... فعلاً لا قولاً؟!!

بعد هذا التحفظ الفكري، لا بد من تحفظ منهجي.

وكما ألمحت بدايةً فلا بد من حصر إطار البحث في خصائص “شخصية العرب المعاصرين” وآليات تفاعلهم مع معطيات واقعهم وعصرهم.

إن إطلاق التعميمات بشأن “الهوية” العربية -كما نفعل في مجمل الخطاب العربي-، أو “العقل” العربي من خلال النصوص المعلقة فوق تضاريس الواقع التاريخي كما فعل محمد عابد الجابري، أو “الرسالة الخالدة” التي لم يتعدَ دورها دور المظلة المهلهلة فوق النظم الدكتاتورية المتخلفة، كما فعل ميشيل عفلق، لن يؤدي بنا إلا إلى ازدياد الهوة الشاسعة بين الكلام والعمل، وبين التنظير والتدبير.

وكما لاحظ أحد باحثينا العرب الجادين، وهو السيد يسين، معبراً عن ضوابط المنهج العلمي في الدراسات الاجتماعية المعاصرة، فإن: “موضوع الشخصية القومية والتي يمكن تعريفها بأنها دراسة أكثر سمات الشخصية شيوعاً في أي مجتمع للوصول إلى تقديم صورة مؤلفة من هذه السمات، ليس من الموضوعات التي يسود بصددها الاتفاق بين الباحثين، ذلك أن الحديث عن سمات الشخصية اليابانية أو الألمانية أو العربية أو اليهودية يمكن في كثير من الأحيان أن يكون زاخراً بالتعميمات الجارفة والأوصاف النمطية الثابتة التي قد تتجاهل أعماق بنية الشخصية من ناحية، والتغييرات الكبرى التي تطرأ عليها عبر الزمن. ويبدو مصداق ذلك لو اختزلنا الشخصية اليابانية في بعد واحد هو الخضوع المطلق للسلطة التي مثلها قبل الحرب العالمية الثانية الامبراطور... (أو اختزلنا) الشخصية الألمانية في بُعد واحد هو سيادة الشخصية التسلطية...”. ويضيف السيد يسين بناء عليه: “يرفض فريق من العلماء الاجتماعيين استخدام مفهوم الشخصية القومية لأنه لا يؤدي إلى فهم موضوعي عميق... غير أن هناك فريقاً آخر يطبقون أدوات البحث الميدانية يرون أنه يمكن ضبط مصطلح الشخصية القومية من خلال صيغة تعريف إجرائي له وتطبيق أدوات البحث المناسبة...”- (صحيفة الأهرام، عدد 3 يوليو/تموز ،2003 ص13).

وعليه فلا بد أن نهبط بهذه العموميات النظرية فيما يتعلق بنا كعرب من السماء إلى الأرض وأن نستدعيها لمساءلتها.... كي لا تبقى أشياء غامضة تضلل أكثر مما تهدي... نلاحظ أن السيد يسين يستخدم مصطلح “الشخصية القومية” فذلك أقرب إلى التحديد العلمي أما “الهوية” فمصطلح فلسفي شبه ميتافيزيقي وتعظيمه وتضخيمه من شأنه أن يؤدي إلى الفاشية.

وعليه فإن توجيه ما يشبه المديح الشعري لهوية الأمة لن يفيدها، إذ تحتاج هذه الهوية من أجل فهمها، وإعادة تشكيلها على أرضية الواقع والعصر شيئاً من شجاعة النقد الذاتي... ورحم الله إمرأً وجيلاً عرف قدر نفسه.

العروبة ليست أيديولوجيا.. إنها واقع حي.....

ينبغي ألا يخيفنا النهج التساؤلي “الديكارتي” بشأن البحث في أبعاد “الهوية” العربية، فنحن لو استبعدنا التعبيرات الوجدانية والأيديولوجية بشأن الهوية - كالقومية العربية والوحدة العربية وما إليهما- فإننا علمياً وموضوعياً وتاريخياً نبقى أمام “ظاهرة عربية” حية لا يستطيع أن ينكرها أحد. ظاهرة عربية بشرية وجغرافية تنطق بلغة واحدة، وبالتالي ذات ثقافة مشتركة، لم تستطع أشد عصور التسلط في الحقب المملوكية والعثمانية، أن تقضي عليها، رغم سيادة اللغة التركية والثقافة التركية وانجذاب النخب الارستقراطية “العربية” إليها طوال زمن غير قصير، كما أسهم استعمار شمولي كالاستعمار الفرنسي في الجزائر في محاربتها بقوة السلاح، فلم يتمكن من اجتثاث جذورها.

واللغة الواحدة ليست مجرد لغة. إنها ثقافة وفكر ووجدان، بل يرى كثير من علماء اللسانيات أن اللغة تمثل تصوراً للوجود وللعالم. وقد أصبحت اللغة في عصر العولمة والتكتلات الكبرى رصيداً اقتصادياً هائلاً إن لم توجد فلا بد من إيجادها كوسيلة اتصال موحدة. وينفق الأوروبيون اليوم مبالغ طائلة على الترجمة الفورية داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها شركاتهم التجارية ومؤسساتهم الاقتصادية لتجاوز تعدديتهم اللغوية. ويتمنى بعضهم لو حافظت أوروبا على لغتها اللاتينية القديمة الموحدة، إذن لأصبحت أقوى مدماك للوحدة الأوروبية في عصرنا. والذين يتمنون للعربية مصير اللغة اللاتينية عليهم أن يتأملوا جيداً التجربة الأوروبية في وحدة اللغة وتعدديتها بين الأمس واليوم. وفي تقديرنا فإن اللغة العربية -مدعومة برصيدها القرآني من ناحية، وبإخلاص الناطقين بهاء سواء كانوا مسلمين، أو مسيحيين - ولعلماء المسيحيين العرب جهد لا ينكر في إحيائها، بل إنه جهد ريادي يذكر فيشكر- نقول إن العربية بهذا الرصيد ستبقى وستتطور نحو المزيد من التبسيط والانتشار، ولنا رأي طرحناه في مجال آخر، وهو أننا نشهد في المرحلة الراهنة ولادة محكية عربية مشتركة، بفعل التفاعل الجاري بين العرب بمختلف لهجاتهم عبر الفضائيات والمعاملات الاقتصادية وغيرها، وانتقال العمالة العربية الوافدة، والمسلسلات التلفزيونية التي تجتذب جمهوراً عربياً واسعاً في مختلف الأقطار العربية، أياً كانت لهجة الحوار فيها، إضافة إلى انتشار التعليم باللغة العربية الفصحى أياً كان مستواه، حيث يمر العرب اليوم بمصهر لغوي تتشكل من خلاله هذه المحكية العربية الواحدة المتولدة من مختلف اللهجات المحلية في الوطن العربي بأصولها الفصيحة، وخصوصاً ما اشتهر منها منذ مراحل سابقة كاللهجات المصرية واللبنانية، إضافة إلى الاستقاء من الفصحى مباشرة في تخليق هذه المحكية العربية الجديدة التي نعتقد أنها ستكون اللهجة المحكية الموحدة الشائعة في الحياة العربية المقبلة، وذلك بما يؤدي إلى تقليص الفروق بين اللهجات المحلية القديمة وتخفيف ضغطها على العربية الفصحى التي ستكون المحكية الجديدة الموحدة أقرب إليها، مفردات وتراكيب، وأقوى دافع لساني حي ومُعاش لتطورها، وعلى باحثينا اللغويين وعلماء اللسانيات التأمل في هذا المؤشر اللغوي الجديد ميدانياً في حياة العرب المعاصرين فسوف يكون له شأن جدير بالرصد والمتابعة.

وعلى ما يتخوف منه الغيورون على مستقبل اللغة العربية -كما فعل الدكتور أحمد الضبيب في بحثه القيم (اللغة العربية في عصر العولمة، مكتبة العبيكان، الرياض، سنة 2001) - من كثرة دخول المفردات الأجنبية، وانخفاض المستوى اللغوي للناشئة العرب في المدارس والجامعات، وتعدد المصطلحات المترجمة والمستخدمة بين بلد عربي وآخر، بل تضاربها... رغم هذا كله، ودون تقليل من خطره، فإنا نعتقد أن “المقاومة” اللغوية العربية -ونعتقد أنها أخطر من أية مقاومة مسلحة!- هي التي ستتغلب مستقبلاً على ما يواجهها من تحديات و”احتلالات” أو بالأحرى اختلالات لسانية. فتلك “هوية” لغوية جديدة وموحدة تتولد للعرب قريباً من لغتهم الفصحى في غمرة تفاعلهم الذي يفرضه عليهم العصر، وهو ما يوجب عليهم استكشافه وتجاوز “المُسلمات” الشائعة التي عفا عليها الزمن، كالمسارعة إلى “هجاء” اللغة المحكية التي هي تعبير الملايين عن أنفسهم، خصوصاً إذا كانت تقترب من الموروث اللغوي المشترك، أي الفصحى التي ستبقى لغة الكتابة العلمية والفلسفية أو بتعبير آخر “اللغة العالمة”.

*** واللغة في تحولاتها الجديدة ليست العامل الوحيد في إعادة تشكيل “الهوية” العربية المستقبلية. إن هذا الفضاء الجغرافي المتصل من المحيط إلى الخليج والذي يجمع بين العرب أرضاً وبحراً وسماءً يمثل سوقاً اقتصادية تنادي العرب وتستصرخهم في عصر العولمة غصباً عنهم، ورغم أنوفهم وصغائرهم وحزازاتهم، بل رغم حدودهم وجماركهم وأجهزتهم الاستخبارية، وزعاماتهم وكياناتهم المتقزمة...!

وإذا كان البعض قد وصل إلى طور “العربي الكاره نفسه” وتعب ويئس من العروبة السياسية والأيديولوجية، فلا مفر له من العروبة الاقتصادية.. هنا “مربط الفرس” للفكر القومي المتجدد إذا أراد أن يبقى قومياً ويصبح متجدداً. يكتب د. جورج قرم، وهو أكاديمي متمرس وخبير اقتصادي من لبنان: “.... الغريب في أمرنا أننا لم نفكر يوماً في ضرورة تطوير وتطبيق ما تسمى القومية الاقتصادية، كما فعلت ذلك كل من اليابان والصين والهند ودول شرق آسيا. فقد ضاعت قدراتنا الفكرية واستنزفت في تأكيد شتى أنواع القومية السياسية، وتأكيد الهوية الدينية أو العرقية أو الثقافية حين لم نتطرق إلى فتح آفاق القومية وتأكيد الهوية عبر العمل المثابر والمتواصل في المجال الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي”.
وعلى أهمية البناء الاقتصادي المشترك، فإنه ليس مقصوداً في حد ذاته. فهو كما يقرر جورج قرم: “الركيزة الأساسية للوصول إلى الثقة بالنفس، وبالتالي الثقة بالهوية الجماعية”. (مجلة العربي، عدد أغسطس/آب ،2003 ص،24 29).

هكذا فلا مفر للعروبة، في هذا العصر، من بعدها الاقتصادي، إذا أرادت البقاء، وتمردت على سجنها القديم القائل (الشعر ديوان العرب!). وقد يبدو غريباً طرح موضوع الشعر في هذا السياق، لكن الشعر ظل ولا يزال “الهوية” الغالبة للعرب تفكيراً وشعوراً وسلوكاً.

وبلا ريب فالشعر جميل، ومريح، ومسكّن.. لكنه لم يعد ديوان العالم ولا ديوان العصر إذا تواضع العرب وقبلوا دخول هذا الديوان العالمي!
العالم الحديث دخل عصر النثر منذ دخل عصر العقل، كما أعلن هيجل قبل أزمان، ومنذ بدأت أوروبا تشكيل العصور الحديثة لنفسها وللعالم. والاقتصاد حليف العقل ورديف النثر، ومن أراد التعامل معه شعراً فالأفضل أن يتركه لغيره!
وأكبر إعاقات الخطاب العربي السائد أنه خطاب شعري في المضمون واللغة، أي في المعنى والمبنى على السواء حتى ولو اتخذ صيغة النثر. التعامل مع واقع العالم شعراً يلخص كوارث العرب السياسية والقومية من فلسطين إلى العراق: لا مراعاة للحقائق والوقائع والعوامل الموضوعية (فأعذب الشعر أكذبه!...) والأنا الجمعية المضطربة والمجروحة، تغالط نفسها وواقعها وحاجتها للتشخيص والعلاج، بالمكابرة والإنكار والرفض من أجل الرفض، والعناد الذي لا يؤدي إلا إلى تنفيس موهوم ومضلل شعراً بالمعنى الذي أشرنا إليه، دون البحث العملي اللازم عن وسائل البقاء والتقدم والصمود، إن أغلب المحاورات “الفكرية” في المنابر العربية إلى يومنا هي صرخات واندفاعات شعرية لتأكيد الذات كلاماً ضد تحديات الواقع. وربما كان عبدالله القصيمي مبالغاً في كتابه (العرب ظاهرة صوتية) لكنه إن قصد العرب المعاصرين تحديداً فربما كان أقرب إلى الموضوعية. وكان من رحمة الله به أن اختاره إلى جواره قبل أن يشهد “صراع الديكة” في بعض الفضائيات العربية!
فالكلام يخلق الواقع، وليس العكس كما هو عليه منطق الأشياء، ومنطق العالم، ومنطق الأمم المؤثرة في هذا العالم.
لا نستطيع إنكار أن مقولة (الشعر ديوان العرب) تدخل في تشكيل معطيات “الهوية” العربية المتوارثة.. ولكن هل ذلك ما ينبغي أن نحافظ عليه من معطيات “الهوية”؟
هذا موقف ليس ضد الشعر والشعور، لكنه ضد انعدام الشعور بحقيقة العالم!
وهي مجرد “نماذج” من البنى الذهنية الفوقية التي تمثل بعض العناصر المؤثرة والمقيمة حتى الآن في “الهوية العربية”، بما يكاد يندرج في توابيت التاريخ المنقضي!

لن نبلغ الوحدة إلا بعد أن نتوحد في أوطاننا... د. محمد جابر الأنصاري أدى غياب الاهتمام بالبعد الاجتماعي في الثقافة العربية الحديثة إلى إغفال البنى المجتمعية التحتية في القاع السوسيولوجي واستبعادها من تشخيص الواقع العربي، سواء لدى المفكرين أو الأحزاب أو السلطات، الأمر الذي تسبب في نتائج كارثية في العمل الوطني والقومي على السواء.. وها نحن نستيقظ، بعد عقود من الشعارات “القومية العروبية الوحدوية” في العراق على مسميات من نوع اخر في تشكيل مجالسه الحاكمة، ونستغرب منها، لكنها ما زالت قائمة في الواقع الذي تهربنا من معطياته طويلاً، وتركناه دون علاج سياسي وفكري واجتماعي ناجع، عدا علاج الشعارات القامعة والمستبدة (في العراق وغيره على السواء).

ومنذ عقود والمفكر الاجتماعي الكبير في العراق، المرحوم علي الوردي الذي منعت الرقابة السابقة مؤلفاته العلمية، ينادي ويطالب الأحزاب والمفكرين وموجهي الرأي العام، بالنظر في هذه المعطيات الاجتماعية من منظورها المحلي الخاص لا المنظور الأممي، وكما هو الحال في واقع العرب من مذاهب وعشائر وجدليات بين البادية والحاضرة يجدر بنا أن نتأمل فيها، ليس عراقياً فحسب، وإنما عربياً، لأنها معطيات تعنينا جميعاً من حيث الواقع التاريخي الذي ما زال معاصراً! .. ومن لا يستفد من تاريخه فمحكوم عليه ان يكرر اخطاءه، أو كما طرحه المفكر الفرنسي بيير فيلار، بعبارة أخرى، مؤسساً لثقافة سياسية ناضجة: “أن تفكر سياسياً بشكل جيد، فعليك ان تقرأ تاريخياً بشكل جيد”.

وفي ضوئه، فيمكننا ان نقرر ان العرب امة “موحدة الوجدان مفرقة الكيان”، أي موحدة على الصعيد المعنوي ومفرقة على الصعيد المادي العملي الواقعي “كما أوضحنا ذلك في كتابات عدة ممكن الرجوع إليها في مظانها”.

ففي لحظات الكوارث القومية تجد الشعور العربي واحداً من المحيط إلى الخليج يقطر ألماً وحزناً، لكنك تلاحظ في الوقت ذاته عجز الأطراف العربية شعبية ورسمية عن ترجمة هذا الشعور الجارف إلى عمل جمعي بمؤسسات وآليات قادرة على الفعل. هذه الدراما القومية تتكرر إلى اليوم، ولا نرى مؤشرات ملموسة تبشر بتخطي هذا الفصام المؤلم. وعلى ما يتصف به الفرد العربي من مواهب وقدرات فإن الفريق العربي فريق العمل المشترك على مختلف المستويات يعاني إعاقة لا ندري متى سيتم التحرر منها. إن هشاشة روح الفريق العربي وضعف أدائه ما ينبغي أن تركز عليه البحوث الاجتماعية، وما يتطلب أن يشخصه ويعالجه فكرنا الاجتماعي (بدل التركيز على المفاخر القومية الغابرة، فالعبرة ما هو رصيدنا الحضاري اليوم في بنوك العصر، لا ما كان عليه حسابنا الوفير في قرون مضت وانقضت).

وكي لا نظلم الشعر، فإن شاعراً عربياً سورياً وهو عمر أبو ريشة قد طرح على أمته سؤالاً تاريخياً مهماً بعد نكبة 1948 وسؤاله ما زال يتطلب الإجابة:

أمتي، هل لك بين الأممِ منبرٌ للسيف أو للقلمِ؟!

تلك هي المسألة!

وأياً كان الأمر، فثمة عوامل تاريخية ومجتمعية وجغرافية لا يسعها حيز هذا البحث، مسؤولة في تقديرنا عن التجزؤ والتفرق والتشرذم على أرضية الواقع، ويمكن الرجوع إليها في مصادر دراستها.

وكما لاحظ الموسوعي العراقي د. جواد علي (في: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الحداثة، بيروت ،1983 ج7 ص 6 - 18): “فقد حالت البراري بين العرب وبين تكوين المجتمعات الكبيرة الكثيفة، وعرقلت الاتصالات بين المستوطنات (الحضرية) التي بعثرتها، وبعثرت الأعراب في البوادي على شكل قبائل وعشائر.. والمجتمعات الكبيرة الكثيفة هي المجتمعات الخلاقة التي تتعقد فيها الحياة، وتظهر فيها الحكومات المنظمة للعمل وللإنتاج وللتعامل بين الناس”.

ولكن إكمالاً لهذه الحقيقة الجغرافية بأبعادها المجتمعية والسياسية الخطيرة، لا بد ان نضيف ان حركة القوافل والقبائل فوق الانبساط البري الذي يشكل الوطن العربي اليوم أدت إلى وحدة تفاعل بشري وثقافي وتجاري بين أطرافه رغم الفراغات الصحراوية المجدبة الهائلة، وساعدت على تفاعل المراكز الحضرية فيما بينها. وكانت الاجتياحات الرعوية الاعرابية والأعجمية الآسيوية تدمر البنى العمرانية (المادية) التحتية، فتفر المعطيات والذخائر المعنوية من سطوتها مع القوافل الهاربة إلى مراكز أخرى، ويبقى الوطن العربي مثل ذلك الكائن الأسطوري الذي إن قطع رأسه في بغداد، ظهر في القاهرة، وإن ضرب في القاهرة برز في تونس، وإن حوصر في تونس، عاد إلى صنعاء.. وهكذا دواليك، وهكذا صمدت “الظاهرة العربية” التي ألمحنا إليها، صمدت معنوياً، بمعنى الوجدان والشعور واللغة والقيم والذكريات المشتركة، لكنها دفعت الثمن غالياً من بناها التحتية العمرانية المادية أمام الاجتياحات المتكررة عبر التاريخ فجاء هذا الهزال في الكيان الجسماني المادي للشخصية الجماعية العربية، والذي لم يتم تجاوزه بعد، بينما بقي الامتلاء الوجداني الشعوري لدى العرب، وإن اصيب بالجمود ومقاومة التغيير، بسبب ما عاناه ويعانيه من حصار ومن ضمور في قاعدته المادية.

وعبر التاريخ وإلى عصرنا، يمكن ان نرصد من خلال هذه الظاهرة الجغرافية والتاريخية في ايجابها وسلبها الانتماءات المتعددة التالية التي ما زالت تؤثر في جهد المجتمعات العربية والمواطن العربي من أجل التركيز على هدف واحد، وهي تعدديات تشاركها فيها أمم أخرى، وإن اختلفت في قدرتها على التفكيك والتشتيت بين أمة وأخرى:

1- حققت الحضارة العربية الإسلامية وحدتها ضمن دائرة متسعة واحدة، لكنها تجزأت منذ صدر الإسلام إلى دوائر سياسية متعددة داخل تلك الدائرة الحضارية الواحدة، وعلى سبيل المقارنة، فبينما احتفظت دائرة الحضارة الصينية بوحدتها السياسية في أغلب العصور، وتطابقت الدائرة الحضارية والدائرة السياسية في الصين، ظلت دائرة الحضارة العربية الإسلامية رغم وحدتها مجزأة عبر دوائرها السياسية المتعددة، مما أدى إلى استمرار تعدديات قائمة في إطار الوحدة الفضفاضة بآثارها غير المواتية على مختلف المستويات وبجدلية مضنية بين قطب التوحد وقطب التعدد.

2- نجمت عن ذلك كما لاحظ برهان غليون ازدواجية ثلاثية الأبعاد في نسيج الانتماء: بين انتماء عام للعقيدة والحضارة، وانتماء مجتمعي متحدد للقبيلة أو الطائفة أو المحلة، وانتماء بحكم واقع الحال للكيانات السياسية القائمة كضرورة عملية، هكذا نجد العربي في الأغلب: “اسلامياً في عقيدته وعبادته، عروبياً في ثقافته وقيمه الأدبية، قبلياً أو طائفياً أو محلياً في نزعته وفزعته الاجتماعية والسياسية” (كتاب المؤلف: تكوين العرب السياسي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ،1994 ص 24). ومرة أخرى لا بد من التحفظ بالتذكير بأن هذه التعدديات طبيعية ومشهودة في حالات قومية لدى أمم أخرى، إلا أن العبرة بالأولوية التي تعطيها كل أمة عملياً لهذا البعد أو ذاك، فإذا غلبت البعد المحلي الجزئي الأصغر على البعد الأوسع، خاصة في أوقات الخطر، كان ذلك مدعاة للقلق والتعجيل بالمعالجة.

3- في الحاضر العربي: تمثل الوحدات الوطنية، سواء كانت طبيعية من إرث التاريخ، أو مصطنعة من فعل الاستعمار، المجال الحياتي الوحيد الذي يعيشه العربي، ويربي فيه اولاده، ويتفاعل من خلاله مع العرب الآخرين ومع العالم ويتعلم فيه قيم الوطنية والولاء والعمل والانتاج، إلا أن العربي ظل يقيم ما يشبه العلاقة غير الشرعية مع وطنه “الصغير” المتحدد بسبب التجاذبات القومية الشاملة والدينية الشمولية. وظل هذا الوطن يمثل له “حالة مؤقتة” بانتظار الدولة الكبرى أو الخلافة العظمى. من هنا في نظرنا ضعف قيم السلوك المدني في حياة العربي، فهي قيم لا يمكن ان يتعلمها الانسان إلا في وطن متحدد يؤمن به ويمنحه كامل ولائه، لذلك لا يتردد العربي في تخريب مظاهر العمران ومصابيح الاضاءة في هذا “الوطن العابر” الذي لا مشروعية عميقة له في أعماقه. وقد أسهمت الايديولوجيا القومية المشرقية التي نشأت كردة فعل عصبية لتقسيمات سايكس بيكو في “الهلال الخصيب” في خلق هذه الحالة العصابية تحت مصطلح الدولة “القطرية” الممقوتة التي ما زال اكثر الكتاب العرب يصبون عليها جام غضبهم بسبب استبدادها وعجزها في مواجهة الاعداء وتجاوز التخلف، وربما كانوا محقين في كثير مما يقولون. (والمدهش ان الايديولوجيا الوحدوية التي ظلت تشجب “الكيانات القطرية” حافظت احزابها على هذه الكيانات بكل ما أوتيت من قوة وحيلة عندما وصلت إلى الحكم!).

إلا أن هذا اللبس والالتباس بين مفهوم “الوطن” الذي يعيش ضمن حدوده وكيانه الإنسان وينبغي ان يتربى فيه تربية وطنية قوامها قيم السلوك المدني المتحضر المستند إلى وشائج المواطنة والوطنية، وبين افرازات الدولة القطرية الحاكمة فيه بمساوئها، قد أدى إلى خلط خطير بين الوطن ونظامه السياسي، ولا بد من العودة إلى التمييز بين الاثنين، وانقاذ مفهوم “الوطن” والوطنية والمواطنة من قفص النظرة السلبية القاتمة السائدة عن الدولة القطرية التي ينبغي أن يتحرر كل وطن عربي من سوءاتها ضمن مشروع اصلاحي ديمقراطي حقيقي يقارب من مفهوم المواطنة والدولة بما يتجاوز حالة الشيزوفرينيا القائمة بين القطرية والقومية القائمة في الوطن العربي، وذلك من منطلق ان من لا يستطيع بناء وطنه “الصغير” لن يستطيع بناء وطنه الأكبر، ومع التذكر دائماً أن “الدول الكبرى” التي قامت في تاريخ العرب، وآخرها الدولة العثمانية، لم تكن أفضل من الدول القطرية من حيث الاستبداد والتخلف السياسي وكيفية التعامل مع المواطن، وأنه ليس ثمة ضمانة أن تكون طبيعة الحكم في الدولة الكبرى أفضل من مثيلاتها القطريات إذا لم تتوافر الشروط الموضوعية للحكم الصالح في هذه الحالة أو تلك. والنقد الشديد الموجه اليوم إلى الدولة القطرية ناجم عن كونها واقعاً ماثلاً يشهد ضد حالته البارزة للعيان، بينما الدولة القومية أو الدينية وعد بعيد ماثل في الأفق، لكنا لو عدنا إلى التاريخ وتأملنا في تراثها السياسي لتبين لنا أن المسألة ليست في الأكبر والأصغر، وإنما في الطبيعة والجوهر.

وإذا كانت هذه الأبعاد الفوق وطنية من قومية ودينية تنازع الوطن القائم ولاءاته في نفس الانسان العربي، فإن الأبعاد دون الوطنية في القاع المجتمعي العربي من عشائرية ومذهبية تشد الإنسان العربي إلى أسفل، فلا يبقى للولاء الوطني الخالص غير هامش ضئيل لا يمكن ان يتم به بناء وطني يُعتد به. ولمن يخشون مثل هذا الطرح، نقول لن تقوم للعرب قائمة، إلا إذا عرفوا كيف يبنون هذه اللبنات الوطنية لتنضج مستقبلاً وتكون اركانا للبناء القومي المشترك، أما الأصفار والكسور فلا تنتج رقماً قابلاً لأن يصبح رصيداً يعتمد عليه في صناعة الأمم.

عوداً على بدء نقول: إن التعميم بشأن “الهوية” مفهوم عريض للغاية وقد يكون مضللاً والحديث عنها يستغرق مجلدات وموسوعات إذا أردنا الإحاطة بها أكاديمياً.

ولكن من زاوية عملية تحاول ربط القول بالفعل والتنظير بالتدبير، فلا بد من القول استجابة لالحاح اللحظة التاريخية الراهنة: إن مسؤولية العرب في هذا العصر أن يستمدوا، وأن يكونوا قادرين على أن يستمدوا، من هويتهم العربية مشروعاً نهضوياً وعملياً في لحظتهم التاريخية هذه باتجاه اصلاح أوضاعهم الوطنية القائمة. هذا محكهم ومحك هويتهم، فالأجدى صياغة هذا المشروع العملي والواقعي ببرامج عمله وتطبيقاته في الإصلاح السياسي والاقتصادي والتعليمي والاجتماعي (الآن الآن، وليس غداً!) ... وباستقلال عن الضغوط الأمريكية والدولية الهادفة لفرض “تصورات تقدمية وتطويرية” غير نابعة منهم، والتي لن يكون مصيرها على الأرجح أفضل من مصير التصورات الخارجية التي تم فرضها في عقود سابقة غير بعيدة على فلبين ماركوس وايران الشاه.

ومشروعات الاصلاح الذاتية المستقلة لا بد أن تتناول كل وطن من أوطان العرب حسب ظروفه ودرجة تطوره، وصولاً إلى تقارب هذه المشروعات الوطنية الضرورية ضمن تصور قومي “اقتصادي” وعملي أشمل، لا بد منه في نهاية المطاف، ولكن لا ينبغي اجهاض مشروعات التطور الوطني باسم شعارات الهدف القومي وهتافاته الغامضة وهو ما زال رجماً بالغيب.

هكذا فالهوية القومية العربية الأم لن تحقق ذاتها إلا إذا استطاعت أن تمد الهويات الوطنية العربية بدماء الحيوية والتفتح لتسهم هذه الأغصان بعد اخضرارها في احياء الشجرة الأم التي تستمد منها نسغ الحياة.


ملحوظة: * مفكر وأكاديمي من البحرين (ansari@agu.edu.bh) والبحث في الأصل بتكليف من (شؤون عربية) الصادرة عن الجامعة العربية، وتنشره في أحدث إصداراتها خريف 2003.
الخليج الإمارتية

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

زوار المدونة

زوار المدونة

إحصاءات المدونة

جميع الحقوق محفوظة

الرشيد

2016